غسان موصلليلم أصدّق ما سمعتُه ورأيتُه في مقابلتك الأخيرة على «الجزيرة». لم أكن أتوقع يوماً من بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، المكمِّل للتسلسل الرسولي الذي بدأ مع ولادة الكنيسة، وحامل وديعة دماء الشهداء الذين ما حابوا يوماً أباطرتهم وحكامهم، وحافِظ تراث الآباء الذين ما ابتغوا سوى وجه المسيح وتعاليمه، أن يضع كل هذا الكنز العزيز دَرْك جولات انتخابية تفتقر إلى أدنى معايير التمثيل الديموقراطي الحقيقي. عتبي، يا صاحب الغبطة، ليس مردّه إلى تفضيلك مرشحاً على آخر، وأنتَ فضلت مرشحاً على آخر، بل إنك، وأنت أبٌ أولاً وأخيراً، فضلت ابناً على آخر. أنا، كأرثوذكسي، لا أؤمن بأن الأرثوذكسي الذي سيفوز في هذه الانتخابات «يمثل» الطائفة الأرثوذكسية في مجلس النواب. فهو يُنتخب في المقام الأول لأنه ينتمي إلى خط سياسي معين، وفي المقام الثاني (والأخير) تلبيةً لضرورة دستورية تقضي بملء عدد معين من المقاعد النيابية المخصصة للأرثوذكس. وعليه، فأنا أفهم أن يتنافس الأرثوذكس، مرشَّحين وناخبين، في هذه الحملة الانتخابية على أساس سياسي محض. هذا أمر مشروع بل صحي في هذه العملية الانتخابية، على عورتها.
أنت تعلم يا صاحب الغبطة حال الاستقطاب السياسي التي تسود الساحة اللبنانية. وآمل أن تكون على بيّنة واضحة وحقيقية من التجاذب السياسي الذي يعيشه أبناؤك. وهم، كلبنانيين وكأرثوذكس، أحرار في اختيار من يقتنعون به من المرشحين. فلمَ إقحام الكنيسة في هذا الأمر؟ مجرد أن «تتعرف» إلى مرشح أو «تؤيّده وتباركه» دون آخر هو إقحام للكنيسة، بكل دمائها وشهدائها وآبائها وتاريخها وجمالها، في خضم هي في غنىً عنه.
لا ضير في أن تشهد الكنيسة لفضائل الحكم، إن وُجدَت، لسياسة شؤون الرعية، والواجب أيضاً أن تعمل الكنيسة لجعل الحكم طاهراً منزهاً من العيوب. ففي نهاية المطاف، الكنيسة جماعة تعيش أيضاً في كنف هذا الوطن وهي بحاجة إلى من يسوس أمورها الدنيوية. لكن أن تتبنّى الكنيسةُ مرشحاً دون آخر فهذه سابقة في تاريخها وتقاليدها وتعاليمها. بطريرك الروم يتكلم باسم الروم في ما سبق لنا ذكره، أي في حفظ الإيمان القويم وتلمّس وجه المسيح في كل إنسان وظرف. أما في كل ما عدا ذلك، فكلامُ البطريرك أغناطيوس عن مفاضلة بين المرشحين ليس في محله. الاختيار بينهم متروك للناخبين وضميرهم وأنا لست هنا في وارد تفضيل مرشح على آخر. ألا تخشى يا صاحب الغبطة أن يثير هذا الأمر حفيظة قسم من
أبنائك؟
إن كان من ومضة للديموقراطية في هذه الانتخابات فإنما هي هذا التمايز والاختلاف السياسي لدى المسيحيين دون سواهم من الطوائف وهذا، أيضاً وأيضاً، دليل عافية. فلمَ قصفُ هذا البرعم الديموقراطي النضر بتدخل الإكليروس في شؤون دنيوية هو غير مهيأ أصلاً لخوض غمارها؟
بين اللبنانيين قسم عزيز، وأنا منهم، يجهد ويتطلع إلى اليوم الذي يكون فيه الولاء للبنان ولاءً وطنياً بالكامل منزَّهاً عن الطائفية التي لم تجرّ علينا إلا الحروب والفتن والتوترات الدورية. فلمَ الإصرار على التمسك بتجربة سياسية أثبتت فشلها وعقمها؟
أنت يا صاحب الغبطة جعلت شعار جامعة البلمند «وتعرفون الحق» وإذا أكملنا الآية الإنجيلية «الحق يحررنا». أبناء الكنيسة والمسؤولون فيها يجب ألا يتورعوا قط عن قول الحق. وأنا انطلاقاً من الروح عينها، أقول لك يا سيدي ويا أبي: أخطأتَ. وأقلّ ما تتوقعه منك رعيتك هو أن تعتبر كل المرشحين الأرثوذكس أبناءك وأن تكون «على مسافة واحدة من الجميع». المساواة في المحبة يا صاحب الغبطة هي واجب الأب لأبنائه.