إنهم مسنو الشتات. جيل النكبة الأول. في ذاكرتهم ما بقي من صور البلاد وروائحها وعاداتها. ولأنهم باتوا قلة قليلة، جمعتهم «جمعية الحولة» في ناديها في مخيم برج الشمالي، هناك يلتقون كما كانوا في قراهم، رجالاً ونساءً
برج الشمالي ــ سوزان هاشم
ما إن تجهز القهوة العربية المعدّة على أصولها والمطبوخة على الفحم، حتى يبدأ «ختايرة» مخيم برج الشمالي بالتوافد تباعاً إلى نادي المسنين في «جمعية الحولي»، كل منهم متكئ على عصا زمن، بالكاد يسنده. تجلس النساء أرضاً في زاوية من الديوان العربي، والرجال في ركن آخر منه، تماماً كما تفرض التقاليد والعادات التي حملوها من قراهم الفلسطينية، وما إن يكتمل العدد حتى ينعقد المجلس.
البلاد في ذاكرة الحاجة أم شحادة، صور مزروعاتها التي كانت تستنبتها في بستانها. وذكريات عن الغراس التي كانت يستمر الاحتفال بها أسبوعاً كاملاً. تفتتح حديثها بقول «رزق الله على هيديك الأيام». و«هيديك الأيام» هي في الحقيقة ثلاثة عشر عاماً قضتها في قريتها الفلسطينية الناعمة، في قضاء صفد. كان ذلك قبل التهجير «حينها قالوا لنا، أسبوع وتعودون إلى بلادكم، وحتى الآن ما زلنا بانتظار الأسبوع». تقاطع الحاجة وطفة مرعي حديث أم شحادة، وتبدأ بالتحدث عن بلدتها الذوق التحتاني، مؤكدة أن الزمن لم يقدر على محو خريطة البلدة من ذهنها التي ما زالت مطبوعة فيها صورة المنزل والحقول. أما الحاجة أم صادق فحفرت ذكريات فلسطين وشماً على وجهها، دقته منذ أكثر من 60 عاماً خلسة عن أهلها على أيدٍ غجرية. وتقول والدموع تترقرق في عيونها «لو هلق قالولي ارجع عبلدي، مستعدة ارجع».
وبين ذكريات قليلة راسخة في مخيلة المسنين وواقع أليم يعيشونه في المخيم، تستمر أحاديث المجلس، ليتدخل الحاج حسن نصار بصوته الخافت، قائلاً «هادا الجيل ما شاف شي من خيرات بلادنا»، مضيفاً بحرقة «جابونا عأرض ناشفة»، ملقياً اللوم على جيش الإنقاذ باعتباره سلّم أرضهم إلى الاحتلال بدلاً من المحافظة عليها. وفيما كل يروي قصة في الذاكرة عن قريته، وعن ذكريات جميلة تركها هناك، يجلس شبان وشابات من الجمعية بسكون، عاكفين على تسجيل كلام المسنين «تمهيداً لتوثيق معلومات عن القرى الفلسطينية وعن مختلف أنماط عيشها، وتقديمها إلى الجيل الجديد في المخيم، لا سيما الأطفال منهم خوفاً من طمس الذاكرة»، كما تشرح حسنة أبو خروب مسؤولة شؤون المرأة في الجمعية. تقول أيضاً إن هذا النوع من المجالس الذي ينعقد أسبوعياً ويحافظ على الروابط بين المسنين هو أحد أنشطة الجمعية، التي تسعى إلى تخفيف حجم المعاناة التي يعيشها المسنون في المخيم، عبر إقامة أنشطة ترفيهية كتنظيم رحلات إلى المناطق اللبنانية، لا سيما الحدود الجنوبية منها، وإحياء سهرات ليلية، إضافة إلى ذلك «تُقدّم خدمات طبية إلى مرضى السكري والقلب من المسنين».
في ظل مأساة التهجير والحرمان الذي يلف حياتهم، ويقينهم، في هذا العمر، باستحالة تحقيق حلم العودة إلى الوطن، يبقى نادي المسنين العزاء الوحيد في غربتهم، يتدفأون بقرب بعضهم بعضاً على وقود الذاكرة، وما اصطفاه العقل منها، صور جميلة لحياة تكاد تخلو كالصور، من التعب، وخيرات أشبه بنبات الجنة، من دون شقاء. هذا ما تعبر عنه الحاجة أم علي المنضمة حديثاً إلى النادي والتي تصفه بأنه «على الأقل فشة خلق».


10 % مسنون

لأن المسنين الذين ولدوا في فلسطين باتوا لا يتجاوزون الـ10% من لاجئي الشتات، «لذلك، حفاظاً على الهوية الفلسطينية والعادات والتقاليد التي يجهلها الجيل الجديد، ولدت فكرة إنشاء نادي المسنين»، يشرح مدير جمعية الحولة محمود جمعة، مردفاً بأنه يجري توثيق المعلومات التي يرويها المسنون في مجالسهم، ومن جهة أخرى «رعاية المسن اللاجئ الذي عانى ما يكفي من الفقر والحرمان»