سلطان سعود القاسمي *فكّرت في الفترة الأخيرة في أنه إذا لم يقم الصحافيون البريطانيون الذين يأتون إلى دبي، كجوان هاري مثلاً (راجع مقالته في «الإندبندنت» بتاريخ 7 نيسان 2009)، بإرسال شيء مثير، فلن يُطبع ولن يدفع لهم أجرهم. ففي نهاية المطاف، الإثارة «بيّيعة».
اتصلت بأحد أصدقائي من الصحافيين البريطانيين وقلت له: «سأكتب مقالة عن لندن، بالطريقة نفسها التي يكتب بها زملاؤك عن دبي». لكن بعد ذلك، عدت إلى بلادي واسترجعت رشدي وقلت في نفسي، إنه ليس من العدل إزاء لندن، المدينة العزيزة على قلبي، أو إلى أبناء لندن أن نطلق الأحكام المعمّمة عليهم بسبب تصرفات قلة منهم، إذ إنه من السهل إطلاق التعميمات عن بلد ما عندما يجري التلاعب بالأرقام من أجل تحقيق الإثارة وبيع المزيد من الصحف.
تخيّل على سبيل المثال أنني كتبتُ مقالة تصرح بأنه يوجد في بريطانيا، البلد المصنّف من أغنى الدول على نطاق العالم ما يقارب 380.000 شخص بلا مأوى، العديد منهم مريض عقلياً، وهناك من يموت جوعاً ويُترك ليفترش الأرض ويلتحف السماء في الشوارع في درجات حرارة تصل إلى ما تحت الصفر.
تصور أنني كتبتُ مقالة تبين أن بريطانيا، التي يُطلق عليها لقب «عاصمة السجون في أوروبا الغربية» قد حكمت على 12.000 امرأة بالسجن في عام 2006، وأن سبعة أطفال شهرياً يولدون في السجن ويقضون فيه الأشهر الأولى المهمّة في حياتهم.
وكان بإمكاني أن أكتب مقالة تبيّن أن بريطانيا، التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، قدّمت ملجأً إلى ما يزيد على 400 شخص من مجرمي الحرب النازيين، أو التصريح بأن عدد الهنود الذين قضوا نحبهم أثناء خدمة الإمبراطورية البريطانية من أجل بناء قناتكم وزيادة إنتاج الشاي لكم، هو عدد كبير جداً لا يستطيع أي باحث تاريخي إحصاءه.
أو افترض أنني كتبت مقالة عن الجيش القوي للمتطوّعين الهنود الذين بلغ عددهم 2.5 مليون متطوع وخدموا بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، والذين توفي منهم 87.000 من أجل حرية من يحتلّ أرضهم. ومن بقي حيّاً منهم لا يزال يعاني وطأة التمييز ضده في دفع الرواتب والمعاشات التقاعدية.
وكان بوسعي أن أكتب مقالة تصرح بأنه، في بريطانيا المتحضرة، تقوم مراهقة واحدة على الأقل من بين كل 23 فتاة بالإجهاض، وأنه في عام 2006 أكثر من 17.000 فتاة من أصل 194.000 فتاة أجهضن في إنكلترا وويلز، لم تتجاوز أعمارهن الـ 18.
وكان بوسعي أن أكتب مقالة تصرح بأن بريطانيا، بطلة حقوق الإنسان، التي لا تريد أن تلطخ يديها بأي عار، قد عهدت إلى دول في العالم الثالث القيام بعمليات تعذيب سرية تحت قناع التسليم لما يزيد عن 170 حالة، وذلك من خلال السماح لما يسمّى رحلات التعذيب لوكالة الاستخبارات المركزية (سي أي ايه) باستخدام القواعد البريطانية، أو اشتراك وكالة الاستخبارات البريطانية ــ الفرقة الخامسة ــ بشكل غير قانوني بالموادّ السرية لوكالة الاستخبارات المركزية من أجل استجواب المشبوهين و«تسهيل المقابلات»، بما في ذلك حالات ثبت فيها أن المشبوهين أبرياء.
وكان بوسعي أن أكتب مقالة أبيّن فيها أن بريطانيا صاحبة القيم الأسرية والعائلية هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي توظف أطفالاً بعمر 16 للعمل كجنود في جيشها، وترسلهم إلى ساحات القتال في العراق وأفغانستان، واضعة نفسها في فئة الحكام المطلقين الدكتاتوريين نفس في أفريقيا وبورما.
وكان بمقدوري أن أكتب مقالة أيضاً تبين أن بريطانيا لم تقم بعد، أو قامت أخيراً فقط، بتوقيع معاهدة المجلس الأوروبي لمكافحة المتاجرة بالبشر، والبرتوكول الاختياري الملحق باتفاقية حقوق الطفل بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة، أو اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم.
وكان بوسعي أن أسلّط الضوء على حقيقة أن بريطانيا الليبرالية هي المسؤولة عن الإساءة الجسدية والعرقية لمئات من طالبي اللجوء السياسي، الذين أخفقوا في الحصول على اللجوء، على أيدي فرق حرس الأمن الخاص خلال فترة إخراجهم القسري من البلاد.
وكان بإمكاني كذلك أن أكتب عن القضايا التي لا تُعدّ ولا تُحصى من حالات وظائف العمال المهاجرين التي تشبه حالة الرقيق، ولا سيما أولئك العمال الصينيين الثلاثة والعشرين الذين لقوا حتفهم عام 2004 أثناء عملهم في حصاد أعشاب الكوكل خلال فترات ارتفاع المد الخطيرة التي شهدها خليج مور كامبي.
كما أنه كان بمقدوري أيضاً أن أكتب عن معدل الوفيات بسبب أمراض الكبد الناجمة عن الإفراط في تناول المشروبات الكحولية، والذي انخفض في أوروبا في العقود الأخيرة، إلا أن معدله في بريطانيا قد ازداد ثلاثة أضعاف، الأمر الذي يعكس الإخفاقات الاجتماعية الخطيرة والعميقة في المجتمع.
وكان بوسعي أن أكتب عن بريطانيا «الأخ الأكبر» وما يحدث فيها من سوء معاملة واستغلال للقاصرين بشكل خطير، حيث إن التقديرات تشير إلى أن واحداً من كل عشرة قُصّر، أو ما يُقدر بمليون طفل سنوياً، يتعرّضون للاستغلال الجسدي والجنسي والعاطفي أو للإهمال.
وكان بإمكاننا أن نشير إلى ما ذكرته وكالة الإغاثة الدولية «أوكسفام» بأن 13.2 مليون شخص في المملكة المتحدة يعيشون في حالة فقر ــ إنه حقاً من المذهل أن يكون 20 في المئة من سكان سادس أغنى دولة في العالم في هذه الحالة!
كان بإمكاني أن أكتب كل ذلك، إلا أنني وبسبب احترامي لبريطانيا، قررت ألا أكتب عن هذا، لأنه عندما تجمع جنباً إلى جنب مجموعة من الحقائق غير المترابطة والمأخوذة من سياق النص، فإنك تصل بالنتيجة إلى صورة مشوهة وغير دقيقة، ولعله أمر يمكن أن يتعلمه جيداً نقّاد دبي من البريطانيين.

* كاتب إماراتي
(نشر هذا المقال في صحيفة الإندبندنت البريطانية في 10 نيسان 2009)