Strong>سناء الخوريطقس ذلك اليوم كان ماطراً والوقت كان ضيّقاً. رغم هذا وذاك، كان يجب تدبّر موعد مع رسَّام الكاريكاتور السويسري باتريك شابّات. صاحب الإمضاء الشهير في صحيفة «إنترناشونال هيرالد تربيون»، وأحد أكثر الرسامين انتقاداً لجورج بوش، حطّ في لبنان. لكنّ زيارته قصيرة. أتى بيروت منسِّقاً لورشة عمل عن الكاريكاتور رعتها السفارة السويسريّة، واختتمتها بمعرض «ريشتي ريشتك» الذي جمعه بثمانية من زملائه اللبنانيين الشهر الماضي في «مسرح المدينة» (بيروت).
نتّصل به، فإذا به يزور مكتبة «أنطوان» في شارع الحمرا. يقول إن الإمكان الوحيد للقاء هو بعد ربع ساعة، فيومه حافل بالمواعيد، وغداً يعود إلى جنيف. قلم، دفتر، مظلّة، و«نزلة السارولا» نعبرها هرولة من مبنى «الكونكورد» باتجاه الحمرا، لنجد شابات جالساً على رصيف مقهى «كوستا» مع خالته «سوسو» (سعاد رحمة). إنّها تلك السيّدة ذات الشعر الأبيض القصير التي اعتاد روّاد «أنطوان» لقاءها على صندوق المكتبة. نعم، فوالدته جانيت، لبنانيّة جنوبيّة الأصل، رغم تطبُّعها الكامل بهويّة «الحياد الإيجابي»، بفعل العشرة. أمّا والده، فتاجر ساعات، تنقَّل من بلد إلى آخر، ليجد ضالته على شاطئ بيروت في الستينيات. هناك، التقى بجانيت وتزوجها وأنجب منها ولدين. تبعاً لمقتضيات المهنة السويسريّة بامتياز، انتقل آل شابّات إلى باكستان، حيث ولد باتريك، «آخر العنقود». هو في الأربعين الآن، لكنّه يبدو سعيداً بحديث الخالة، الممهور بتقليد دارج في «سويسرا الشرق»: ها هي تمحّص الشبه بين سمرة بشرته وسواد عينيه، وملامح عائلتها، كأنّها به مولود جديد.
بقي لبنان بالنسبة إلى شابات، موطن عائلة محاطة بالحرب الأهليّة، يسمع عنها ولا يعرفها. خاله المصاب بشظايا الاقتتال قصد جنيف للعلاج، ولم يلتقِ باتريك باقي العائلة إلّا بعد نهاية الحرب عام 1991، حين زار لبنان للمرَّة الأولى. «أذكر أنَّ أشكال الناس كانت تدلّ على خروجهم من معركة. مصدومون، سلبيون، يميلون إلى الكآبة، هكذا رأيتهم حينها». يخبرنا هذا وهو يسند يديه على طاولة انتقلنا إليها في إحدى زوايا المقهى، هرباً من المطر الذي لم يترك للرصيف صاحباً. بين «عجقة» رواد المقهى والموسيقى الخافتة، يحكي لنا عن الوجهات المتفرّعة التي سلكتها حياته ومهنته.
يبدأ من كراتشي حيث ولد، مروراً بنافورة المياه في حديقة منزلهم في سنغافورة حيث عاش حتَّى الخامسة، وصولاً إلى مدارس جنيف حين قررت والدته هجر الشرق إلى غير رجعة، «كي يتعلّم أولادها الفرنسيّة جيّداً». يحكي لنا كيف بدأ العمل في صحف سويسريّة محليّة (La Suisse، L'Hebdo، Weltwoche) فور حصوله على البكالوريا، وكيف منعه انغماسه في المهنة من دخول الجامعة وقاده حتّى نيويورك. هنا، تلمع عيناه بذكرى غريبة عن برجي مبنى التجارة العالميين اللذين غيّرا شكل التاريخ. كان صديقنا يرتاد نادي رياضة يقع بينهما. يقف في الأسفل، ينظر من هناك إلى الأعلى، ليرى العملاقين المتوازيين يخترقان السحاب، ويخونه البصر فيشكّ لبرهة في أنّهما سيلتقيان.
استقرَّ شابات في مانهاتن بعد رحلة استكشافيّة في أميركا الجنوبيّة، برفقة زوجته آن فريديرك وايدمان، المنتجة والمقدّمة في التلفزيون السويسري. يخبرنا: «وصلنا إلى المدينة حاملين حقائب الرحّالة. يومها شعرت بأنّ مغامرتي في تلك الرحلة لم تنته، بل انبعثت من جديد، وخصوصاً أنّه كان علينا البحث عن شقّة وعمل». أصبح شابات جار برودواي، وهناك وجد الطريق الملكيّة إلى الصحافة الأميركيّة فعمل في «نيويورك تايمز» و«نيوزويك» (1995ــــ 1998). ترك الولايات المتحدة ليستقرّ برسمه اليومي في صحيفة Le Temps السويسريّة، ومنذ 2001، ينشر كاريكاتوره السياسي في الـ«أنترناشونال هيرالد تريبيون» التي تملكها «نيويورك تايمز»، مرتين في الأسبوع.
هنا، يعدِّل جلسته، ليتحدَّث بفخر عن تجربته في جريدة توزّع في أكثر من مئة بلد. حقَّق من خلالها حلمه بالخروج من الأفق السويسري المحدود إلى الفضاء العالمي.
ريبورتاجات مرسومة، تنقل الأحداث على طريقة القصص المصوَّرة، ميَّزت عمله في السنوات الماضية، وأفردت لها Le Temps صفحات كاملة. هذا ما فعله في حرب غزّة الأخيرة، حين زار القطاع مع أربعة برلمانيين سويسريين يساريين. «كانت أوّل مرَّة أقتربُ فيها من الحرب إلى هذا الحدّ. رأيت طفلاً ميتاً على سرير مستشفى». يقول جملته الأخيرة بغضب، ويعود ليخبرنا: «ليلى شهيد (مندوبة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي) قالت إنّ هذا الريبورتاج المرسوم أعاد البعد الإنساني للمأساة، بعدما استهلكتها الصورة وعلكتها».
أمّا الكاريكاتور اليومي، فله وصفةٌ خاصّة. يفرد الأب لثلاثة صبيان، ساعتين يومياً للتأمّل. على طاولة مربَّعة في مطبخ مكتبه، يخطُّ مسودَّات عدة، إلى جانب آلة تحضير القهوة، قبل أن تلمع الفكرة في رأسه. عندها ينتقل إلى مرسمه في الغرفة المجاورة، ويحوّل الفكرة إلى كاريكاتور اليوم التالي. هذه إحدى العادات الأثيرة التي أكسَبَته إياها عشرون عاماً في المهنة. يوم نُشِر رسمه الأول في صحيفة La Suisse (توقفت عن الصدور)، كان يوم ميلاده العشرين. «أرَدتُه امتحاناً ذاتياً لقدرتي على جعل هواية الرسم مهنة. كان الموضوع فرار السجين والتر ستورم للمرَّة السابعة». منذ ذلك الحين، تناول مروحة مواضيع واسعة من الاقتصاد والبيئة إلى السياسة الدوليّة، والمهاجرين والعلاقة بين الشمال والجنوب، كان آخرها ما كاله من رسوم لبوش ولجهابذة الأزمة المالية العالمية. هل يجعله ذلك يسارياً؟ «إنّها «ملامة» توجّه إلى معظم رسامي الكاريكاتور في أوروبا، لكنّ المهنة علّمتني ألّا أرى العالم بعين واحدة، وأنّ الكاريكاتور تحدٍّ لتجاوزات السلطة، يساريّة كانت أو يمينيّة». يضيف: «أعرف أنني سأرسم كثيراً أيضاً في عهد أوباما الذي يرث المشاكل الكبيرة كلّها». مجموعاته صدرت ألبوماتٍ مصوّرة، أشهرها Globalizied (2005ـــــ 2007)، Attention Chutte des Mythes (1992) إثر انهيار جدار برلين، وكان لخالته «سوسو» حصّة في ألبوم يروي يومياتها بين الحواجز الطائفية والمناطقية، نموذجاً عن لبنان ما بعد الحرب.
خلال تظاهرة 14 شباط (فبراير) الماضي، كان في بيروت يعدّ للورشة. «صعقت برؤيتي للشخصيات السياسية نفسها تلقي الخطابات نفسها، مع فرقٍ بسيط هو زيادة الشعر الأبيض في رأسها. وجدت هذا محزناً». يقول ذلك ملتفتاً إلى ساعته، فقد انقضى نصف الساعة الذي حدَّده لحديثنا. نتبادل عناوين البريد الإلكتروني، ويغادر ضجيج المقهى مسرعاً، بعدما خطّ على دفتر «الأخبار» توقيعه الشهير. سيكون غداً في جنيف مدينته التي يعشق بُحيرتها، وطابعها الكوسموبوليتي.
توقّف المطر، والجوّ مناسب لمشية بطيئة في الحمرا، ولاستعادة شذرات من الحديث السريع. «لا يمكن رسّاماً تغيير العالم، لكنّ الكاريكاتور قد يحرّض على التغيير. إنّه وسيلة لردّ الاعتبار للضعفاء».


5 تواريخ

1967
الولادة في كراتشي (باكستان)

1987
نشر رسمه الكاريكاتوري الأول في جريدة La Suisse المتوقفة عن الصدور

1995
وصل إلى نيويورك حيث رسم في «نيويورك تايمز» وبقي فيها حتّى عام 1998

2001
أصبح رسام الكاريكاتور في «إنترناشونال هيرالد تريبيون» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)

2009
شارك في ورشة عمل «ريشتي ريشتك» التي نظّمتها سفارة السويسرا في لبنان، وجمعت رسامين من ثماني صحف لبنانيّة وسيجول مع المعرض على دول عدّة