Strong>كامل جابرمنذ دخولك على وليد غلمية في مكتبه في «المعهد الوطني العالي للموسيقى ـــــ الكونسرفتوار» (سن الفيل ـــــ جبل لبنان) ترافقك طيلة الحوار، ابتسامات مرحة يشوبها «حنين مستمر إلى جديدة مرجعيون» كما يقول. «أعيش هناك في ضميري وذاتي ومخيّلتي. لهذا، خصّصتها بعمل موسيقى سمّيته مرجعيون». هناك ولد غلمية عام 1938. والده كان تاجراً، مولعاً بالكشافة، يقتني كمنجة ومندولين يستخدمهما في رحلاته. يشاء القدر أن يصبح وليد يتيم الأب وهو في السادسة من عمره. آلتا الوالد أغرتاه بالعزف، وقد ساعدته عمته أولغا، عازفة المندولين، في حركات المفاتيح الأولى.
في 1956، انتقل ابن الـ 18 من «كلية مرجعيون الوطنية» إلى إحدى مدارس البعثات الأميركية «الجيرارد»، واختارها بسبب وجود أستاذ موسيقى فيها، كان يدعى فضل عودة. يخبرنا: «فوجئت بعد ثلاثة أشهر بقوله: كل ما أعرفه عن الكمنجة علّمتك إياه». في 1958، انتقل إلى«الجامعة الأميركية في بيروت» وتسجّل في الكونسرفتوار. هناك، ركّز على عزف الكمنجة وحضّر كونشرتو لبيتهوفن لتقديمه في الامتحان، لكنّ كسراً في الإصبع الوسطى في يده اليسرى منعه من مواصلة حلمه في احتراف العزف. بعد هذه الحادثة، درس التأليف الموسيقي على يد معلمه الإنكليزي وولدرج، وتوفيق سكّر والأب يوسف الخوري. كان «الناس يتلهّون بثورة الـ58 التافهة ويطلقون النار بعضهم على بعض، وكنت أنا أتعلم الموسيقى».
بعدما درّس الكيمياء والرياضيات والفيزياء لعامين، في معهد البكالوريا المسائي وفي «ثانوية رأس المتن»، زار الولايات المتحدة للمرة الأولى عام 1960، لكنّه عاد. « لم تكن أوضاعنا المادية تسمح، لكنّني عدت إليها عام 1970 ونلت الدكتوراه في العلوم الموسيقية».
في المرحلة التي سبقت رحلته الثانية إلى «العالم الجديد»، انصرف بزخم إلى التأليف وقيادة الفرق الموسيقية. لاصق الفورة المسرحية السائدة أثناء تلك الفترة في لبنان، ورفدها بالموسيقى (مسرحية «مجدلون» لروجيه عساف، ومسرحيات ليعقوب الشدراوي وميشال نبعة وريمون جبارة)، كذلك وضع الموسيقى التصويريّة لبعض الأفلام. وفي 1963، شارك في «مهرجانات بعلبك الدولية» و«مهرجانات إهدن»، مؤلّفاً وقائداً موسيقياً وكذا فعل في العام التالي. عام 1965 ساهم في تأسيس «مسرح فينيسيا»، أول مسرح موسيقي دائم في لبنان والعالم العربي، إلى جانب روميو لحود، كمؤلّف وقائد فرقة ومستشار فني، واستمر بذلك العمل يومياً لمدة ثلاث سنوات متتالية، حتى عاد إلى «مهرجانات بعلبك الدولية» عام 1967.
العمل اليومي في «مسرح فينيسيا»، مكّنه من وضع مؤلّفات موسيقية وإصدار أول أسطوانة موسيقية مدّتها 45 دقيقة بعنوان «من ليالينا»، وكانت أسطوانة موسيقية صرف. وفي 1970 أسس غلميّة «مهرجانات جبيل (بيبلوس) الدولية»، وأطلقها بعمل مسرحي عنوانه «يا ليل» من كلمات جورج جرداق وبطولة جوزف عازار وفدوى عبيد ودريد لحام، والعمل ثلثه غناء وثلثه حوار وثلثه موسيقى.
أوكلت إليه وزارة الثقافة العراقية عام 1975 مهمّة إعداد دراسات عن الموسيقى العراقية، ليغوص في التراث الموسيقي العظيم. «جعلتني التجربة أتوصل إلى الخلاصة الآتية: يجب أن نخرج من التراث الفولكلوري ضمن الأطر المحدودة إلى أعمال موسيقية كبيرة، فاتجهت نحو كتابة السمفونيات المبنية على مادة موسيقية تراثية، وكانت السمفونية الأولى «القادسية» أو «سمفونية الإيمان» عام 1976، وبها أطلقت موجة التأليف الموسيقي في العالم العربي».
في السبعينيات والثمانينيات، وما تخللها من حرب أهلية لبنانية، جال العالم قائداً للأوركسترا الوطنية في كل من كنساس والعراق واليونان وسوريا وبولونيا، مع محطات في بلجيكا وسويسرا والأردن وباريس وإيران.
تسلّم عام 1991 مسؤولية رئاسة «المعهد الوطني العالي للموسيقى ـــــ الكونسرفتوار» وراح يركِّز على إيجاد مناهج أكاديمية كاملة للموسيقى الشرقية العربية، من آلات الدفّ إلى الطبلة، فالقانون والناي. «جمعتُ أساتذة الإيقاع، وبينهم أهمّ عازف دفّ وهو علي الخطيب، وقلت: اعزفوا. رحنا نسجّل كل ضربة وحركة، وبحثنا عن أسماء معروفة للأصوات والحركات ودوّنّاها، حتى خلقنا منهجاً، من الألف إلى الياء، طبعناه كتباً وزعناها على أكاديميات عربية. وقد كتب شربل روحانا، وكان أستاذاً هنا، أول منهج لآلة العود».
أكثر ما يسعد غلمية، أنّ لبنان قدّم نقلتين في الموسيقى الشرقية؛ الأولى تجلّت في «مهرجانات بعلبك الدولية» التي أرست تاريخاً للمهرجانات العربية، «وصار هناك ما قبل مهرجانات بعلبك، وما بعد مهرجانات بعلبك». أما النقلة الثانية، فكانت «المعهد الوطني العالي للموسيقى» الذي «أوجد مناهج أكاديمية حقيقية علمية للموسيقى».
يجزم المايسترو بأنّه لا يمكن كتابة تاريخ الموسيقى بالاستناد إلى الأغاني فقط. فهي وإن كانت جزءاً ضرورياً، إلا أنها ليست العمود الفقري الذي ترتكز عليه كتابة تاريخ الموسيقى العربية. «ربما لو لم أبدأ أنا بذلك، لكان غيري سيفعل، إذ لا يوجد عندنا تاريخ للموسيقى». يكنّس بحركة يد كل الانتقادات التي توجّه إليه، إن مؤلّفاً أو رئيساً للكونسرفتوار: «خلقت تياراً يرغب في التأليف الموسيقي لا في التلحين فقط، وأطلقت الأوركسترا الكبيرة التي كانت تعاني من الخمود في العالم العربي. أنشأت الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية والأوركسترا الوطنية للموسيقى الشرق ـــــ عربية، ما شجّع العالم العربي من المحيط إلى الخليج على تشكيل أوركسترات سمفونية».
في 2008 أعاد وليد غلمية إصدار أعمال ألّفها بين 1976 و1982 ـــــ واقترنت عناوينها بالملاحم العربيّة ــــ في ثلاث أسطوانات: سمفونية «القادسية» أو «سمفونية الإيمان» (1976)، سمفونية «المتنبي» أو «سمفونية البطولة» (1978)، سمفونية «اليرموك» أو «سمفونية الحرية» (1979)، سمفونية «الشهيد» أو «سمفونية العطاﺀ» (1981)، وسمفونية «المواكب» أو «سمفونية الإنسان الجديد» (1982)، وفي هذا العام يؤلف السمفونية السادسة «الفجر». وهو يرى أن الموسيقى العظيمة لا حدود مكانيّة لها، لكنّها ذات جغرافية بيئية: «عندما أكتب موسيقى، أكتبها من موقع معبَّأ بالشرقي، ولا يمكن أن أكتب من موقع فرنسي أو روسي أو ألماني أو برازيلي. لكنّ المستمع أينما كان على الكرة الأرضية، يتذوّق العمل الموسيقي إذا كان ذا قيمة، تماماً مثلما نتذوّق نحن الشرقيين تشايكوفسكي أو بيتهوفن وغيرهما».
ثمّة ما يجاهر به غلمية، أنه ليس هناك من مبدع على الكرة الأرضية «إلا اليساري، لأن الفكر اليساري فكر عادل. وبالتالي لا يمكن المبدع أن يكون غير يساري لأنه لا يمكن أن يكون غير عادل». لكن ثمّة «فنّانين استغلّوا اليسار حتى الرمق الأخير، بصفته مؤسسة سلطويّة... أما أنا فقد أخذت هذا الفكر نهجاً، لا حزباً». ويختم: «قرأت القرآن والإنجيل، وأومن بأن الإبداع هو أقصى درجات الفرح عند الإنسان».


5 تواريخ

1938
الولادة في جديدة مرجعيون (جنوب لبنان)

1965
صدور أولى أسطواناته بعنوان «من ليالينا»

1970
شارك في تأسيس «مهرجانات بيبلوس الدولية»، (جبيل/ لبنان)

1991
ترأس «المعهد الوطني العالي للموسيقى ــــ الكونسرفتوار»

2009
يعمل على تأليف سمفونية سادسة، بعدما أُعيد إصدار سمفونياته الخمس العام الماضي. كذلك يسعى إلى تحويل «الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية» إلى «الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية»