حين تلقّيتُ دعوةً كريمةً من الدكتورة نجاح العطّار، نائب رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة، للمشاركة في مؤتمر العلاقات اللبنانيّة ـــ السوريّة (14ـ 18/4/2009)، تردّدتُ قليلاً رغم تقديري العارم للحدث. ذلك أنني كنتُ (ولا أزال) أخشى أن يكون الطابعُ الرسميّ لأيّ مؤتمر غيرَ ملائم لمناقشة الأمور المهمّة بالجدّية والحريّة المطلوبتيْن. فماذا وجدت؟
سماح إدريس *
يؤسفني أن أنهي إلى أصدقائي «الديموقراطيين الليبراليين»، ممّن يذهبون إلى أقاصي الأرض باستثناء دمشق، أنّ مؤتمر العلاقات اللبنانيّة ـــ السوريّة الذي عقد أخيراً في دمشق شهد في يوميْه الأخيريْن بشكل خاصّ مقارباتٍ جدّيّةً وصاخبةً وحرّةً تقع في صميم مشكلة العلاقات اللبنانيّة ـــــ السوريّة. وكان «رُموزُ» تلك المقاربات كثيرين، منهم: عصام خليفة، وكمال حمدان، وسمير سعيفان، وناصيف نصّار، وسليم الحصّ، وسليمان تقيّ الدين، وأحمد برقاوي (بالمناسبة لماذا يصفه المؤتمر، هو والرفيق ماهر الشريف، بأنهما سوريّان؟ لا تهمّني بطاقةُ الهويّة كثيراً... إلّا في حالة الفلسطينيّ). نعم، كان «الرموز» لبنانيين في غالبيّتهم. ولعلّ ما يفسّر ذلك أنّ مَن اختار المدعوّين اللبنانيين، كما أحْدسُ، قد كانوا لبنانيين متفلّتين، إلى حدٍّ ما، من التدخّل السوريّ الرسميّ المباشر، خلافاً للمنظّمين السوريين على ما يبدو. وهذا أمرٌ مؤسفٌ جدّاً بالمناسبة: فلقد غُيّبتْ معظمُ وجوه المعارضة الثقافيّة السوريّة (بعضُها ما زال محُشوراً في السجون، أو يتعرّض للتضييق في عمله، أو يُمنع من مغادرة الأراضي السوريّة ــ ولا داعي إلى ذكر الأسماء لأنها معروفةٌ للقاصي والداني). فكان المؤتمرون اللبنانيّون أكثرَ استعداداً، وأشدَّ ثقةً بأنفسهم ووثائقهم.
■ ■ ■
أنتقل إلى بعض الملاحظات على المؤتمر، وأبدأها بملاحظةٍ تنظيميّة، آملاً أن يأخذها المنظّمون في الاعتبار لدى إقامتهم المؤتمرَ القادم (تردّد أنّه سيُعقد بعد شهرين في دمشق أيضاً).
1 ـ كثير من أبحاث اليومين الأولين كان خارج موضوع المؤتمر. فمحمد محفل قدّم ورقةً استغرقتْ أكثر من 40 دقيقة، وغرقتْ في الأصول اللغويّة لمصطلحات «الثقافة» و«الحضارة» و«سوريا» و«كنعان» و«فينيقيا»؛ وباستثناء أحد استنتاجاته التي تفيد أنّ بلاد الشام تمثّل كياناً جغرافيّاً متماسكاً منذ الألف الثاني قبل الميلاد وحتى أيّام سايكس ــــ بيكو (خلا فترة قصيرة في القرن التاسع عشر)، فإنّ بحثه المهمّ لا يفيد في تطوير العلاقات اللبنانيّة ـــــ السوريّة الراهنة. وتحدّث ماهر الشربف عن مثقفي عصر النهضة، وخلص إلى استنتاجاتٍ عميقة (وإنْ تكن سجاليّةً) عن مفهومهم للوطن والوطنيّة... لكنْ لا صلة لها مباشرة بعنوان المؤتمر. وغاص يوسف سلامة في الفلسفة والكلام على... شبلي الشميّل! وسطّر خلف الجراد ورقة من 40 صفحة عن... بوادر الفكر القوميّ. وصبّ سمير إسماعيل جهدَه في مؤتمر يُفترض أن يكون عن سوريا ولبنان للحديث عن... التوراة واليهود! وعالج أنطوان سيف الدورَ الوطنيّ للثقافة في... الصراع العربيّ ـــــ الإسرائيليّ. وخصّص وجيه فانوس بحثه لتجربة... أحمد فارس الشدياق جسراً للتواصل بين مشرق العرب ومغربهم! وثمة أبحاثٌ أخرى قُدّمتْ في ذيْنك اليومين الأوّلين كان أحقّ بأن تُدْرَج، مع أخواتها السالفات، ضمن ندوةٍ سبق أن عُقدتْ في سوريا قبل شهور بعنوان «تجديد الفكر القوميّ والمصير العربيّ». فلماذا حشرها المنظّمون في هذا المؤتمر؟
إنّ مسؤوليّة هذا الخطأ الفادح، والحقّ يقال، لا تقع على المشاركين. ولذا فإننا كثيراً ما سمعنا هؤلاء يكرّرون اللازمة المملّة لدفع شكوى الجمهور: «هذا ما طلبه إليّنا المنظّمون!»
على أنه ينبغي أن نستثني من أوراق اليوم الأول بعضَ ما جاء في آخر مداخلة سليمان تقيّ الدين الذي أكّد بعد عرضه التاريخيّ أنّ سوريا «لم تساعدْ مشروعَ الدولة في لبنان وإنْ أسهمتْ في وقف الحرب» (لكنه لم يذْكرْ أنها أجّجتْ حروباً «صغيرةً» أحياناً).
2 ـ تميّزت الجلساتُ المتعلّقة بالنضال السوريّ ـــــ اللبنانيّ المشترك ضدّ الانتداب الفرنسيّ وبعده، وصولاً إلى الانسحاب السوريّ من لبنان عام 2005، بأبحاثٍ تفصيليّةٍ متينة. فتوسَّعَ محمد مراد في عرض مستويات النضال المشترك ضدّ الانتداب: النضال المسلّح وصولاً إلى الثورة السوريّة الكبرى، والنضال الاجتماعيّ عبر تعاضد عمّال سكك الحديد والنسيج والحياكة والسوّاقين في كلا البلدين، والنضال السياسيّ عبر تأسيس الأحزاب المشتركة (الحزب الشيوعيّ السوريّ ـــــ اللبنانيّ، الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ،...). وفي السياق نفسه تناول سامي مبيّض محطاتٍ حاسمةً في ذلك النضال المشترك (الكتلة الوطنيّة، إضراب لبنان وسوريا عام 1936، الاستقلال...)، وخَتم بعرض صور «سلايدز» عن شهور العسل اللبنانيّة ـــــ السوريّة ـــــ وإنها لصورٌ تستثير الحنينَ فعلاً، الأمرُ الذي قد يكون لازماً اليومَ، في خضمّ ما يبدو لدى البعض قدراً انفصاليّاً لا رجعة عنه. أمّا إبراهيم درّاجي، فقصَر ورقته على محطّتين في ذلك النضال المشترك: النضال ضدّ حلف بغداد، والنضال ضدّ السلام والمفاوضات المتعدّدة الأطراف... وإنْ كان ما ذكره بخصوص المحطّة الثانية أقربَ بكثيرٍ (كما نرى) إلى وصاية «الشقيق الأكبر» منه إلى نضالٍ «مشترك» يَفترض احترامَ خصوصيّات البلد الأصغر واحترامَ الشركاء (مع إقرارنا بأنّ عدداً من «الشركاء» اللبنانيين لم يستحقّوا الاحترام لأنّ هدفهم كان الاستقواءَ بالنظام السوريّ على مواطنيهم اللبنانيين).

3 ـ كانت الجلستان الاقتصاديّتان (في اليوم الثاني) من أهمّ ما حصل في المؤتمر، وأعني تحديداً أوراقَ كمال حمدان ونبيل مرزوق وسمير سعيفان (ولم أستطع الاستماعَ إلى محاضرة المثقف والخبير الاقتصاديّ اللامع جورج قرم للأسف الشديد ولا الحصولَ على بحثه مطبوعاً). قد لا يكون البلدان ندّيْن اقتصادييْن كما يتمنّى عصام خليفة، غير أنّ السوريين ـــــ على ما أشار حمدان ـــــ متفوّقون في الزراعة وفي معظم الصناعات، فيما يتفوّق اللبنانيون عليهم في الخدمات والمصارف والإعلام والكهرباء والإنترنت. وصحيح أنّ مشاكل البلدين الاقتصاديّة كبيرة (وعلى رأسها جيوبُ الفقر)، إلا أنّ حمدان يوضح أنّ مشاكل لبنان أكبرُ بكثير إمّا لأنّ الكفاءات هاجرتْ أو لأنّ الطوائف لا تنفكّ تمنعها من تفجير طاقاتها. كما أنّ لبنان يعاني ديْناً عامّاً «تستهلك خدمتُه وحدها ثلثيْ إيراداته»، فيما «لا يثير الوضعُ السوريّ الماليّ القلقَ» و«هجرةُ شبابه أقلُّ» و«معدّلُ فتوّته أعلى». وعليه، يوصي حمدان بإيجاد «لجنة مهنيّة» لا حزبيّة، لمعالجة المشاكل بين البلدين؛ ومن ضمنها: العنصريّة ضدّ العمّال السوريين في لبنان (يصرّ حمدان، وبحقّ، على إعطاء ضماناتٍ اجتماعيّة لهم)، وعقباتُ انسياب البضائع من لبنان إلى سوريا (أشار عصام خليفة في تعقيبه إلى الرسوم السوريّة العالية، وإلى «الشكوكِ» السوريّة بشهادات المنشأ اللبنانيّة، وإلى القيود النقديّة السوريّة، وإلى المبالغة في الكشف والمعاينة السورييْن...).
أمّا عرض رئيس إحدى الجلستين الاقتصاديتين، رياض داودي، فيتميّز أولاً بتأكيده أنّ الاختلاف في طبيعة النظامين الاقتصاديين (واحدٌ حمائيّ بدءاً فـ«اشتراكيّ» لاحقاً، والآخرُ قائمٌ على التجارة الحرّة) لم يحُلْ دون تواصل علاقاتهما الاقتصاديّة؛ ويتميّز ثانياً برأيٍ خطيرٍ مفادُه أنه لو طَبّق البلدان «معاهدةَ الأخوّة والتعاون والتنسيق» منذ عام 1991، فضلاً عن اتفاقاتٍ أخرى أتاحتها تلك المعاهدةُ، لتجنّب كلاهما «التطوّراتِ الدراميّة» التي عرفاها في السنوات القليلة الأخيرة: فبناءُ مصالح مشتركة في القطاعين الخاصّين، هنا وهناك، كان سيؤدّي بالتأكيد، حسب داودي، إلى دفاعهما عن التكامل الاقتصاديّ وصونِه بكلّ ما أوتيا من قوّة.
وأخيراً فإنّ بحث سمير سعيفان بالغُ الإفادة والحيويّة. فهو يستعرض تبدّلات الاقتصاد السوريّ باتجاه «اقتصاد السوق دون رجعة»؛ فيلاحظ زيادةَ دور القطاع الخاصّ، وارتفاعَ معدّلات النموّ. لكنه ينبّه (استناداً إلى تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشريّة عام 2004) إلى أنّ ذلك جاء على حساب فقراء سوريا. ثم يعالج سعيفان العلاقاتِ الاقتصاديّة مع لبنان ليخْلصَ إلى أنها لم ترْقَ إلى مستوى الاتفاقيّات بينهما منذ عام 1991. بيْد أنه لا يعزو ذلك إلى اختلاف السياسة الاقتصاديّة بين البلدين فحسب، بل يعزوها أيضاً إلى معارضة بعض الأطراف اللبنانيّة تنميةَ العلاقات المذكورة، وإلى وجود «مصالح في بقاء الأوضاع على ما هي عليه» (تضطلع بهذه المصالح ـــــ كما يقول ـــــ فئاتٌ سوريّةٌ كانت ناشطة في تهريب السلع الممنوعة إلى سوريا وفي تهريب العملة السوريّة إلى شتورا وبيروت، كما تضطلع بها فئاتٌ لبنانيّةٌ تنتفع من ذلك التهريب ومن عمليّات السوريين المصرفيّة في لبنان).

4 ـ أسبغَ بعضُ «النجوم» حيويّةً كبرى على أجواء المؤتمر. ولا شكّ عندي في أنّ أبرز هذه النجوم بريقاً وألمعيّةً إنما هو عصام خليفة. ولا أقصد هنا كمّيّة معلوماته الهائلة، المنظّمة، المركّزة، الهادفة، فحسب؛ وإنما أقصد، أولاً وفي الأساس، صورتَه كمثقفٍ مستقيم، جريء، لا يهاب قولَ ما يراه حقّاً، وبحزمٍ واستقلاليّةٍ وشفافية، مراعياً ـــــ في كلّ مرة ينبري فيها من مقعده لينتقد السلطاتِ السوريّة في قلب دمشق ـــــ أن يؤكّد تمسّكه بالعروبة، وبسورية، بل عدمَ ممانعته أن يكون لسوريّة «نفوذٌ في لبنان» شريطةَ ألّا يكون على حساب حريّة هذا البلد.

وفيما ركّزتْ ورقةُ «ندّه» السوريّ (والأصحّ: الفلسطينيّ) أحمد البرقاوي، في الجلسة الأخيرة، على أنّ المشكلات بين البلدين «ليست مشاكلَ حدودٍ ولا مياه ولا مجنّسين ولا معتقلين، بل تقوم على طريقة وعي كلّ طرفٍ بالآخر وبذاته»، فإنّ ورقة خليفة تناولتْ هذه المسائل تحديداً وبالتفصيل. وفي رأيي أنّ الورقتين متكاملتان، إذ إنّ الوعي الذي تحدّث عنه صديقُنا البرقاوي ليس منبتّ السلطة بتلك المسائل التي وصفها (خطأً أو مبالغةً) بالـ«تقنيّة». يقول البرقاوي إنّ الوعيَ اللبنانيّ بذاته وبسورية وعيٌ «طائفيّ أقلّويّ تأسّس على وجود حليفٍ خارجيّ يُستقوى به»؛ فيما كان الوعيُ السوريّ بلبنان وبذاته متأسّساً على فكرة العروبة وعلى أنّ لبنان «خطأ تاريخيّ»، وهو ما يحُول دون تسليم سوريا بدورٍ لـ«الأطراف» (ومنها لبنان). لكنّ التسليم بهذا الدور هو ما يجب على السلطات السوريّة القيامُ به في اعتقادي ـــــ وهذا لن يتمّ إلّا بمعالجة كلّ مشكلةٍ بين البلدين على حدة، وفي تشابكها وترابطها فيما بينها أيضاً.
وفي هذا المجال طرح خليفة مسائلَ عدّة، منها: ترسيمُ الحدود، والمسجونون اللبنانيون في سوريا، وتنظيمُ اليد العاملة السوريّة في لبنان. وقد يصْعب علينا ــــ كعروبيين ويساريين مؤمنين بعولمةٍ بديلةٍ في وجه العولمة الاستعماريّة المتوحّشة ـــــ أن نهلّل لحدودٍ تقْسم البيتَ الواحدَ قسمين (مَن شاهد، بالمناسبة، الشريط الوثائقيّ عن ذلك «اللبنانيّ» الذي سيقْسم الترسيمُ العتيدُ منزلَه إلى قسميْن، بحيث يتناول صاحبُنا القهوةَ في مطبخه في سوريا، ويشاهد التلفزيونَ في صالونه في لبنان؟!). إلّا أن السياسة السوريّة في لبنان، التي عزّزتْ فيه الوعيَ الطائفيّ الأقلّويَّ (والانتهازيَّ أيضاً)، تحتاج إلى ترميم جدّيّ. وقد يكون الترسيمُ (للأسف)، وتسليمُ سوريا أمام الأمم المتحدة بلبنانيّة مزارع شبعا، خطوتين لا بدّ منهما، في غياب أيّ اقتراحاتٍ ترميميّةٍ أخرى. كما أنّ تنظيمَ اليد العاملة السوريّة في لبنان إنما هو في صالح السوريين واللبنانيين معاً، ترشيداً للمنافسة الشريفة بين عمّال البلدين، وإنصافاً لمئات الآلاف من بناةِ لبنان الحقيقيين (بالإذن من تيّار المستقبل)، ودرءاً لأخطار العنصريّة اللبنانيّة (التي استجلبتْ بين عاميْ 2005 و2006 عنصريّةً سوريّةً ممجوجةً انحسرتْ تدريجيّاً، والحمدُ لله). وأخيراً، فإنّ معرفة مصير المعتقلين اللبنانيين (ومصير المفقودين السوريين في لبنان كما كان ينبغي على خليفة أن يضيف) يندرج في صميم أيّ ترميم لعلاقاتٍ حاضرةٍ ومستقبليّة بين البلدين.

5 ـ يلاحظ المراقبُ الموضوعيّ في المؤتمر وجودَ ملكيين أكثر من الملك، وأعني تحديداً وجودَ لبنانيين يزايدون في تأييدهم لسورية على السوريين (الرسميين أو شبهِ الرسميين) أنفسهم. فمثلاً قال إبراهيم درّاجي، وهو أحدُ المحامين السوريين الشباب الأذكياء الكثيري الظهور على الفضائيّات دفاعاً عن الموقف السوريّ الرسميّ، إنّ سوريا دخلتْ لبنانَ لحماية سوريا ولحماية لبنان، فردّ العميد اللبنانيّ أمين حطيط بأنّ سوريا دخلتْ لبنان «لحمايته وحمايةِ مسيحيّيه» من الفلسطينيين الذين كانوا يقولون «إنّ طريق القدس تمرّ بجونية»! ولكنْ، مهلاً يا عميد: فمن منّا يصدّق أنّ الرئيس الأسد (الأب) دخل لبنانَ كرمى لسواد (أو زرقة) عيون الرئيس كميل شمعون (الجدّ) والرئيس سليمان فرنجية (الجدّ) والشيخ بيار الجميّل (الجدّ)؟ إنّ مثلَ تلك الردود، البعيدة عن الموضوعيّة، والغارقة في تمجيد دوافع الدخول السوريّ بما يتخطّى تصريحاتِ السوريين أنفسهم، لا تفيد العلاقاتِ اللبنانيّة ـــــ السوريّة في شيء، لأنها لا تفتّش عن المصالح بل تتعامل بمنطق الرغبات والأوهام.
وقريبٌ من هذا موقفُ مشاركين لبنانيين يزايدون على بعض السوريين في تعداد مثالب السياسيين اللبنانيين، وكأنّ السياسيين السوريين براءٌ من كلّ عيب! هكذا غَرِقَ غيرُ مشاركٍ لبنانيّ في ذمّ المافيات اللبنانيّة، متناسياً المافياتِ (والحيتانَ) السوريّة، علماً أنّ بعض هذه كانت شريكةً لتلك طوال عقودٍ من عمر الوصاية السوريّة على لبنان.

6 ـ ثمة أمور مزعجة على هامش المؤتمر إذا جاز التعبير. من بينها: ضعفُ الحبْر في العدد الأكبر من الموادّ الموزّعة (الأمرُ الذي يجعل قراءتها تمريناً منهِكاً على التكهّن والتبصير)؛ وسوءُ إدارة كثيرٍ من الجلسات (إذ «يخْجل» رئيسُ الجلسة أحياناً من مناشدة المحاضِِر التوقّفَ عن الكلام بعدما تجاوز وقتُه بعشر دقائق أو أكثر). ولكنّ أشدَّ الأمور في نظري إزعاجاً هو ألّا تنقلَ الصحفُ السوريّةُ الرسميّة (أو التي اطّلعتُ عليها في كلّ الأحوال) مواقفَ المشاركين كما هي، وإنما راحت تجتزئ وتحذف كي لا ينال السياسةَ السوريّةَ أيُّ أذى، مع أنّ المؤتمر جاء برعايةٍ وتنظيمٍ رسميين، ومع أنّ رئيس البلاد نفسه اعترف بأخطاء سوريا في لبنان وأقرّ (في جريدة «السفير» قبل مدّة) بأنّ سوريا «خسرتْ لبنانَ» بسببها! من هنا يحار المرءُ في تعليل التناقض بين مؤتمرٍ رسميّ (شبهِ) منفتح، وصحافةٍ رسميّةٍ أسيرة. فعلى سبيل المثال يحار المرءُ في تبرير «تطيير» جريدة «تشرين» (في 15/4/2009) لعباراتٍ مهمّةٍ من خطاب الرئيس الحصّ في جلسة الافتتاح التي حضرتْها نائبُ رئيس الجمهوريّة السوريّة؛ ومن هذه التطييرات: «طلبْنا من السوريين تصفيةَ حالة التمرّد [التي قام بها الجنرال عون]» (يبدو أنّ آخرَ ما تودّ الصحافةُ الرسميّةُ السوريّةُ نشرَه هذه الأيّام هو نكءُ الجراح العونيّة، مع أنّ التاريخ حقائقُ صلبةٌ لا تقبل المسايرات ولا يفيد تجاوزُها في شيء)، و«إنّ جهاز الاستخبارات [السوريّة] تمادى وتجاوز في لبنان». ونتساءل: ألا يخْسر المؤتمرُ كثيراً إذا لم يطّلعْ على مداخلاتِه إلّا المشاركون في المؤتمر، وعددهم لا يتجاوز المئتيْن في أحسن الحالات؟ ولماذا يتمّ طمسُ أخطاء النظام السوريّ في الصحف حين يكون هدفَ المؤتمر المعلن تحسينُ العلاقات بشكلٍ علميّ وعمليّ؟
■ ■ ■
وأخيراً، فإنّني أرغب في أن أدلي بالاقتراحات التالية:
أولاً: أن تُعقد مؤتمراتُ العلاقات اللبنانيّة ـــــ السوريّة مداورةً، فيُعقد المؤتمرُ الثاني في لبنان، والثالثُ في سوريا، وهكذا. وأقترح أن ترعى المؤتمرَ القادمَ في لبنان الهيئاتُ الثقافيّةُ اللبنانيّةُ من مختلف الأطياف. وأرجو ألا يقولَ أحدٌ إنّ أوضاع لبنان «لا تسمح بذلك» (أنسيتم أنّ بيروت اليوم عاصمةٌ عالميّةٌ للكتاب وستستقطب أكثرَ من 300 نشاط على امتداد الشهور القادمة؟)
ثانياً: أن يكثّف المنظّمون السوريون من انفتاحهم على مثقفي لبنان الذين يعارضون السياسة السوريّة لغير سبب،
وأن يتفهّموا أنّ بعضهم محقٌّ في معارضتهم، ولا سيمّا لخروق الاستخبارات وتدخّلها في شؤونهم (من فرضِ وزيرٍ إلى تعيين عميدٍ في الجامعة). وفي المقابل، أرى أنّ على مَن «يرفض» من المثقفين اللبنانيين المشاركة في مؤتمرٍ سوريّ رسميّ أن يمتنعوا، حرصاً على صدقيّتهم الليبراليّة، عن المشاركة في أيّ مؤتمر عربيّ أو كرديّ رسميّ آخر (في أربيل والسليمانيّة والقاهرة وعمّان والرياض والكويت وتونس، وكلّها ـــــ كما نعلم ـــــ واحاتٌ رسميّة، ما شاء الله، للديموقراطيّة والحداثة والعروبة وحريّة المرأة ودعم غزّة والدفاع عن المثليين والمثليّات!). وربما ينبغي للمثقفين الليبراليين اللبنانيين، حرصاً على صدقيّتهم أيضاً، أن يمتنعوا عن المشاركة في مؤتمراتٍ وورش عملٍ من تنظيم السفارات الاستعماريّة أو منظمات الأن. جي. أوز (حين ترتبط هذه الأخيرةُ بحكوماتها الاستعماريّة)، وعن التحدّث عبر قناة «الحرّة» (المموّلة من وزارة الدفاع الأميركيّة صاحبةِ التاريخ العريق في نصرة... المقهورين في العالم). فلنوقفْ، إذن، مرةً والى الأبد، مهزلةَ حصرِ الاستبداد في النظام السوريّ (والإيرانيّ)، كما يفعل عباقرةُ الليبراليّة الوهّابية ويسارُ الديكور.
ثالثاً: أن يُدعى إلى المؤتمر القادم (في بيروت أو دمشق، والأفضلُ في الأولى كما ذكرتُ) مثقفو المعارضة السوريّة الشرفاء الحريصون على العلاقات المتينة، ولكن الصادقة، بين البلدين، وأن يُرفع الحظرُ عن مغادرة بعضهم للأراضي السوريّة. بل ليت مناسبةَ انعقاد المؤتمر القادم تكون فرصةً لرفع حظر سفر بعض المثقفين اللامعين خارج الأراضي السوريّة، وفرصةً أيضاً للإفراج عن معتقلي الرأي في سوريا (ومن بينهم الأستاذ ميشيل كيلو)، ليشاركوا في نهضة سوريا وفي تطوير العلاقات الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة مع لبنان. أقول ذلك وأنا أدركُ أنّ اقتراحي لن يَرْسم إلّا بسمةً متهكّمةً على شفاه السلطات السوريّة وشفاه القرّاء. كما أتمنّى أن يُعتبر اقتراحي تدخّلاً فظّاًً في شؤون بلدٍ أعتبره بلدي، وشؤون ثقافةٍ لا أرى للثقافة في لبنان بهاءً من دونها.
رابعاً: أن يتم التقليلُ قدرَ الإمكان من دعوة المثقفين «الإمّعات» و«رجال النّعَم»... من كلا الجانبيْن.
خامساً: أن تعطى السياساتُ الثقافيّةُ حيّزاً أكبرَ من الاهتمام في أيّ مؤتمرٍ شبيهٍ قادم، ولا سيّما على صعيد تبادل المطبوعات والنشر المشترك وإلغاءِ الرقابة إلغاءً تامّاً (ما معنى الرقابة أصلاً بوجود الإنترنت والفضائيّات؟ وهل تدرك الرقابةُ السوريّةُ أنّ من أكثر الكتب مبيعاً في دار الآداب مثلاً كتابيْن ممنوعيْن في سوريا؟)... علماً أنّ الرقابة السوريّة هي اليوم، والحقُّ يقال، من أكثر الرقابات العربيّة رأفةً بالكتاب المستورَد.
سادساً: أن يتمّ تنظيمُ المؤتمرات القادمة بحيث يراعى التركيزُ على كيفيّة تطوير المصالح الشعبيّة المشتركة، لا العقائد الرسميّة المتباعدة. وإنْ كان لا بدّ من مقاربةٍ فكريّةٍ ما، فليكن تركيزُها على ما سمّاه ناصيف نصّار «مقاربةً نهضويّة»، أيْ مقاربةً تستهدف إحداثَ نهضةٍ ثانيةٍ على مستوى الغايات العليا، وعلى رأسها الحريّةُ والعدل.

* كاتب لبناني، ورئيس تحرير مجلة الآداب