هنا، في مقر الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، أودع مئات العمال المصروفين ملفات تنتظر حلولاً تعيد إليهم حقوقهم المهضومة. وإذا كان «الحل الحبي» خيار الكثيرين، فإنّ من بين العمال من يملك نفساً طويلاً لمتابعة قضاياه حتى الرمق الأخير، أي حتى صدور حكم مجالس العمل التحكيمية بحقوقهم كاملة. لكنّ ثمة فريقاً ثالثاً لا يسلك طريقي المفاوضات والمحكمة لاعتبارات مختلفة!
فاتن الحاج
لم تتعرض شركة الباطون التي عمل فيها ميشال فخري لنيران عدوان تموز 2006، بل إنها لم تقفل حينها يوماً واحداً، ومع ذلك فقد سائق الآلية وظيفته في الأسبوع الأخير للحرب، من دون أي إنذار مسبق، لا شفهي ولا خطي. لكن الرجل الخمسيني لم يسكت على هذا التعدي الفاضح على عمل أعطاه كل حياته، فما كان منه إلا أن لجأ إلى نقابته. اتصلت الأخيرة بصاحب العمل فبادرها بصلافة من اعتاد ألا يحاسبه أحد «مش رح إدفع وعملوا اللي بدكن إياه». فشلت المفاوضات الحبية في استرجاع الحق، ما جعل العم ميشال يلجأ إلى القضاء المختص، أي مجالس العمل التحكيمية التي لها صفة العجلة. ورغم ذلك انتظر سنتين وشهرين حتى صدر قرار تغريم رب عمله السابق بالصرف التعسفي، وبالتالي أعطي أخيراً كل حقوقه القانونية.
وإن كان ميشال فخري، النقابي العتيق، وعضو مجلس نقابته يدرك أن طريق المحكمة هو الواجب سلوكه، فإن النقص في الثقافة النقابية هو ما يبعد الكثيرين من العمال عن هذا الطريق. هكذا، فضّل علاء سكرية، وهو عامل ديليفري، «حلاً حبياً» لم ينل بموجبه إلا نصف حقوقه. سكرية كان هو الآخر قد صرف تعسفياً. لا بل إن صاحب العمل حاول إلباسه تهماً مختلفة كالسرقة من باب التهديد. لكن الهم الأساسي للشاب كان أن يعثر سريعاً على عمل آخر لإعالة أسرته، ولم يكن يفكر بمتابعة الشكوى في وزارة العمل ومجلس العمل التحكيمي لعدم قدرته على دفع أتعاب المحامي.
ومع أنّ النقابات تحاول المساعدة عبر الاستعانة بمحامين يتقاضون رسوماً رمزية، إلا أنّ بعض العمال يمتنعون عن تقديم شكوى على خلفية «بلكي بكرا بيرجعونا». وبما أن التركيبة الطائفية طاغية على الذهنية العامة، فهناك بينهم من يذهب تلقائياً إلى زعيم الطائفة أو الحزب ويبني حساباته على هذا الأساس. فالعمال، وربما كان لديهم بعض حق، فقدوا الثقة بنقاباتهم ووزارة العمل والمحكمة، هكذا يفضلون ترك حقوقهم، وخصوصاً حين يسمعون أنّ الدعوى القضائية قد تستغرق 4 سنوات وما فوق، «ما يجعل الحق بلا قيمة بمرور الزمن»، كما يقول أحدهم. ومن حالات الصرف التي يمتنع فيها العامل عن تقديم شكوى أو رفع دعوى، وجود أحد أفراد أسرته في المؤسسة نفسها، أو ممارسة صاحب العمل ضغوطاً اجتماعية، لا سيما إذا كان في السابق يساعد العامل «بشي برّاني»، وبإمكانه أيضاً أن يضغط على الآخرين بوقف تقديمات كان العامل يستفيد منها بطرق ثانوية عبر جمعيات وغيرها.
هكذا يتجاوز صاحب العمل قانون العمل الذي يحكم العلاقة بينه وبين العامل. مع أن القانون لم يترك ناحية من نواحي العمل إلا وعالجها: من بيئة العمل اللائق والإجازات والبدل والمواصفات التي يجب أن تتوافر في العامل وغيرها. وتشرف وزارة العمل على صحة تطبيق القوانين ولديها صلاحية إلزام أصحاب العمل بتنفيذ القانون، لكن هذه الصلاحية غير مقرونة بقوة تنفيذية، كما يقول أحد النقابيين. لكن المدير العام لوزارة العمل بالإنابة عبد الله رزوق يؤكد عكس ذلك. وهو يقول إنّ الوزارة تقوم بالتفتيش الدوري لمواقع العمل للتأكد من التزام الطرفين موجباتهما التعاقدية. «يهمنا أن تعمل الشركات بصورة طبيعية توفّر لها زيادة الإنتاج والتطور من جهة، وأن يشعر العامل بالاطمئنان ويحظى بكل حقوقه وإن كنا لا نحمي العامل المخالف» يقول لـ«الأخبار» التي التقته في مكتبه. لكن، ماذا لو كانت الشركة هي المخالفة وصرفت العامل من دون أي سبب مقبول؟ يقول رزوق: «يتقدم العامل عادة بشكوى خلال شهر واحد من تاريخ الصرف إلى وزارة العمل التي تسعى إلى معالجة الأمر عن طريق الحلول الحبية. لكن هذه الحلول مرتبطة بالتزام الشركة بقواعد العمل وقوانينه. وفي حال فشل التسوية، على العامل ولوج باب القضاء المختص، أي مجالس العمل التحكيمية، التي هي سلطة قضائية ولقراراتها القوة التنفيذية». نسأله: ماذا عن حجم الشكاوى التي تقدم إلى وزارة العمل؟ يلفت رزوق إلى أنّ الوزارة لا تملك «أرقاماً دقيقة وإن كانت حالات الخلاف كثرت في حرب 2006 وخفت حدتها تدريجياً في السنتين الأخيرتين بشكل لافت»، على حد تعبيره. يضيف: «إذ لم يعد هناك حالات صرف جماعي بل حالات فردية لا تتجاوز أصابع اليد، لدينا شكوى أو شكويان في الأسبوع الواحد». ويتوقف عند إساءة بعض المؤسسات استعمال الحق مع بعض العمال الذين يملكون صفات نقابية فتمارس عليهم ضغوط تصل إلى صرفهم من العمل، علماً بأنّ ذلك مخالف للقانون احتراماً لحرية العمل النقابي المكرسة في الاتفاقيات الدولية والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء.
يتحدث رزوق عن مشروع قانون أعدته الوزارة لتعديل قانون العمل الذي يعود إلى عام 1946، وهو سيأخذ طريقه إلى مجلس النواب لإقراره.
إلى ذلك، يشكو المحامي جورج جريج من أنّ بعض الدعاوى في قضايا العمل تستغرق 10 سنوات. «يعني بيكون العامل أكل الضرب»، كما يقول، مطالباً بقانون عمل عصري يناقش مع لجنة تحديث القوانين ونقابة المحامين وذوي الاختصاص والبت بسرعة بالدعاوى القائمة أمام القضاء. لكن من يدفع مصاريف الدعوى طيلة هذه السنوات؟ «العامل طبعاً»، يقول جريج، لكن بما أنّ أتعاب المحامي في هذه الحالة توازي أو تضاهي التعويضات المطالب بها، وهذا ما لا يتناسب مع العامل، جاء قانون العمل ليعفي الدعوى أمام مجالس العمل التحكيمية من الرسوم القضائية، كما أنّ القانون لا يلزم العامل بتعيين محام. أما تعويضات الصرف التعسفي فتتراوح بين شهرين و12 شهراً للأجراء العاديين و12 و36 شهراً لأعضاء مجالس النقابات.