مهى زراقطيسبب هذا الأمر توتراً في حياة هذا الثنائي، لا يكفي يوم العطلة لمعالجته: «أصدقاؤنا هم زملاؤنا في العمل. كلما التقينا كان الحديث عن بقية الزملاء أو المدير. نضحك أحياناً لكني أشعر بأن الوضع غير صحي. لا يعقل أن يحتلّ العمل كلّ هذا الحيّز في حياة أي إنسان».
ملاحظة مماثلة تسوقها فريال، شابة عشرينية تتحضّر للزواج. يفترض من يلتقيها أن الحديث معها سيكون عن خطيبها، عن تحضيراتها للزفاف، عن أثاث المنزل. لكن الواقع مختلف. عملها لا يمثّل فقط محور حديثها، بل محور حياتها. لا تتردّد في القول إنها تنام وهي تفكر به، وقد تستيقظ أحياناً في الليل لتتذكر إن كانت قد أخطأت في مكان معين أو إن كان يمكنها إنجاز عملها بشكل أفضل لو توافر لها الوقت. يسبب هذا الأمر مشاكل بينها وبين خطيبها، الذي لا يجد طريقة لدفعها إلى التوقف عن الشكوى إلا المقارنة بين عملها الجميل وعمله غير المنصف. هكذا يقوم الحديث بينهما على المعادلة التالية: هي تحكي عن عملها الذي تحبه وتسعى لأن تثبت مكانتها فيه، وهو يحكي عن ربّ عمل لا يطاق، يتقن كلّ أنواع الاستغلال. الحديث في الحالتين عبارة عن شكوى مستمرة تجعل القلق والتوتر ضيفاً على كل لقاء يجمعهما، عوضاً عن أن يكون فسحتهما شبه الوحيدة للتنفس.
أسباب عديدة تقف وراء هذا الحديث المستمرّ عن العمل، أبرزها برأي غيدا «الخوف من خسارته. في أي لحظة يمكن صاحب العمل أن يأتي بموظف بديل، لذلك أشعر بأني يجب ألا أقصّر أبداً، وخصوصاً بعدما أنجبت وترتبت عليّ مسؤوليات إضافية». أما بالنسبة إلى فريال فالوضع مختلف. حديثها عن العمل سببه قلقها من عدم أداء عملها على أكمل وجه. «أعرف أني لست محقة، وخصوصاً أن الجميع يثني على عملي، لكني لا أنجح في السيطرة على نفسي ومنعها من التوتر أو منع نفسي من الحديث عن مشاكل عملي».
تبقى حالة فريال مقبولة إذا قيست بحالة أحمد. شاب في نهاية العشرينيات، كان حتى وقت قصير يسخر ممن يحمل عمله معه خارج مكتبه. لكنه منذ بدأ يكره وظيفته، لم يعد يحكي إلا عنها في أي مكان قد يكون فيه. يشكو من دوام العمل الطويل في شركة مهمته فيها إصلاح الأعطال الطارئة على أجهزة الكومبيوتر، الأمر الذي لا يتيح له الإبداع وإنتاج برامج خاصة به «لكني مجبر على البقاء لأني بحاجة إلى الراتب». غير أن ظروفه التي تجبره على تحمل هذا الوضع، لا تعني أنها يجب أن تجبر آخرين على تحمّل شكاواه المستمرة. تقول شقيقته: «باتت الحياة معه جحيماً. لا يكف عن الشتم والصراخ. وكلما زاره أحد أصدقائه أو حتى اتصل به نسمعه يكرر الحديث نفسه عن مديره ومؤامرات زملائه المحيطين به والخائفين على مواقعهم بسبب شعورهم بأنه يمثّل خطراً عليهم».
توافق رئيسة قسم علم النفس في الجامعة اللبنانية، الدكتورة إلهام الحاج حسن على القول بخطورة احتلال العمل هذا الحيّز الكبير في حياتنا، لأن «الأمر الصحي هو نسيان العمل فور مغادرته». موضحة أن الحديث عن العمل، وخصوصاً في معرض الشكوى منه، «يحوّل إرهاق الفرد النفسي إلى جسدي وقد يتطوّر الأمر ليصبح من غير السهل معايشته، وخصوصاً إذا تكرّر الحديث عنه أمام أشخاص قد لا يعنيهم الأمر». صحيح أن الحديث عن أمر معيّن يصبّ غالباً في خانة التعبير، وحتى التنفيس عن غضب معيّن تقول الحاج حسن، «لكنه حين يصبح زائداً، يجب التحلي بإرادة قوية للتوقف عن الشكوى، والبحث عن عالم آخر يتيح الفصل بين العمل والحياة الخاصة».
لطالما ردّد اللبنانيون المثلَيْن الشعبيين «باب النجار مخلّع»، «الاسكافي حافي»، في موضع الانتقاد أو التهكم من صاحب مهنة ما. لكن واقع الحياة العملية التي نعيشها اليوم، يفرض إعادة النظر في تقييم هذه الأمثلة. ففي وقت بات فيه العمل يحتل كلّ حياتنا، يصبح النجار الذي ينسى عمله ما إن يغلق باب بيته، ولو كان مخلّعاً، إنساناً قوياً وصاحب إرادة في رمي همومه خلف ظهره. وكذلك الأمر بالنسبة للإسكافي، (المهنة التي تعاود الظهور اليوم بسبب تردي الوضع الاقتصادي)، حيث لا ضيرَ في أن يكون حافياً ما دام يستطيع أن يقضي وقتاً سعيداً مع عائلته بعيداً عن مشاكل عمله.