حسين فرانقصدت بيروت طلباً للعلم وممنّياً النفس بمراكمة خبرة حياتية غنية. وكأي شاب يستقل عن أهله المتوسطي الدخل، سرعان ما اكتشفت أن مصاريف العاصمة تفوق بكثير مصروفي في القرية. دفعني ذلك، فور التحاقي بالجامعة مباشرة، للبحث في ليل بيروت عن مهنة أسدّد من خلالها مصروف نهاراتي في الجامعة. وسرعان ما اهتديت إلى مهنة «البارتندر»، أو الساقي. بدأت العمل ليلياً في إحدى حانات شارع الحمرا. بدا العمل مسلياًََ في بادئ الأمر حيث كنت ألتقي يومياً نماذج جديدة من الناس، وأتعرّف إلى طبائعهم وسلوكهم. لكنّ عبء هذا العمل تفوّق على التسلية التي يمنحها، إذ إن كثرة السهر منعتني من المواظبة على دروسي، كما أجبرتني على التخلف عن حضور الكثير من محاضراتي. فقد كنت أرجع في آخر الليل فيستحيل عليّ الاستيقاظ باكراّ في اليوم التالي لشدّة التعب. كان علي إيجاد صيغة أوفّق من خلالها بين عملي وجامعتي. وقد وجدتها فعلاً، لكن بعدما تنقّلت بين 3 جامعات في غضون سنتين، بحثاً عن الدوام الأكثر مرونة في الاختصاص الأكثر مرونة!
لا يزال عملي الليلي يسلّيني، رغم أنه لا يخلو من الإزعاج: فخلف البار الخشبي، عليّ أن أبقى مبتسماً دائماً «أحسن ما يهرب الزبون». طيّب، ماذا لو كنت متضايقاً أكثر منه ولا أشعر بأدنى رغبة في الابتسام؟ لن يشعر أحد بذلك، لكن الجميع سيلمحون بالتأكيد مسحة التكلّف في ابتسامة تعلو وجهاً ذابلاً من الإرهاق والمتاعب التي تشغل بال صاحبه.