معمر عطوي *قنبلة جديدة يفجرّها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ يوسف القرضاوي، وسط التوترات المذهبية القائمة، من خلال نفي علمه بوجود فتوى «أزهرية» تجيز التعبد على المذهب الشيعي الاثني عشري. وذلك بعد أشهر قليلة من تصريحاته الهجومية ضد الشيعة، الذين وصفهم بالمبتدعة، واتهامه إيران بالعمل على تشييع أهل السنّة.
تصريح القرضاوي هذا، يوضح أن الرجل لم يجد في كتب شيخ الأزهر الراحل محمود الشلتوت (1893ــــ1963)، فتوى بخصوص الإجازة للمسلمين السنّة ممارسة طقوسهم الدينية وشعائرهم، وفق أحكام المذهب الاثني عشري، إلى جانب المذاهب الأربعة لأهل السنّة والجماعة (الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي). ما أثار جدلاً واسعاً، لا سيما بأبعاده السياسية التي تواكب حملة عربية عنيفة ضد الدولة الفارسية.
لكن المفارقة أن حدة الانتقادات والاستهجانات الصادرة من الطرف الشيعي لنفي القرضاوي، هي في عدم ملاءمتها للرؤية الموضوعية المُقنعة، التي ينبغي أن تثير في المقابل تساؤلاً مشروعاً عن سبب عدم وجود فتوى شيعية مماثلة، سواء عن الحوزة الدينية في قم أو عن الحوزة في النجف، تجيز التعبد على مذهب أهل السنّة. إذ يصبح المفهوم منقوصاً حين أطالب طرفاً بالاعتراف بشرعية ما أقوم به، من دون أن أعترف به أو بشرعية ما يقوم به.
وبعيداً عن المهزلة السياسية، التي تورّط فيها القرضاوي، على هامش مؤتمر «علماء المستقبل»، الذي نظّمه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في القاهرة، في أول نيسان، من خلال تصريحاته الحادة التي نفى فيها علمه بفتوى الشيخ الشلتوت، انزلق الشيخ مرة أخرى من نقد دور سياسي لإيران إلى تغذية الحقد المذهبي ضد طائفة كبيرة من المسلمين.
لا تخدم تصريحات الشحن المذهبي هذه، سوى «أعداء الأمة» والمشروع الصهيوني الأميركي الذي من شأنه تعزيز الشرخ بين السنّة والشيعة وبين المسلمين وغيرهم وبين العرب والفرس. مشروع يتبلور أكثر فأكثر كلما تقدّمت إيران في مسيرتها العلمية والتسليحية.
بيد أنّ «الورطة» السياسية التي وقع فيها شيخ ذو مكانة رفيعة على المستوى الدعوي الإسلامي (وهو طالما تحدّث عن ضرورة توحيد صفوف المسلمين وعدم تكفير بعضهم بعضاً)، تقودنا إلى عقم الخطاب الديني وقصور المنهجية التي ينطلق فيها المتدينون في نقدهم لبعضهم بعضاً، والتي تصل إلى حدّ الوصف بالنجاسة والابتداع والضلال أوالاتهام بالشرك أو بالكفر. كل هذه الترّهات نابعة من لاعقلانية واضحة في الحكم على الآخر، لدرجة أن شروط قبول الصلاة أو الصوم أو أي شعيرة من شعائر المسلمين وطقوسهم، تبدو مثيرة للسخرية، بل للاشمئزاز.
من الواضح أن الفتاوى واضحة في لحاقها بركب السياسة. وأصبحت محاباة هذا الحاكم أو ذاك من «عدة الشغل». ورجال الدين جاهزون لإصدار الفتوى بما ينسجم مع القرارات السياسية المتعلقة بدوائرهم الحزبية ومصالحها، أو بما يتناسب مع سلاطينهم الذين يغدقون عليهم المال والامتيازات.
بهذا المعنى، كانت دعوة السيد حسن نصر الله إلى الصلاة وراء الشيخ فتحي يكن، الداعية السني، خلال اعتصام المعارضة في بيروت، دعوة يتيمة جاءت لتخدم مشروع المعارضة ومحاولة فاشلة لسحب فتائل التفجير بين السنّة والشيعة.
ولو حاولنا تمحيص الموضوع من داخل الحقل الديني نفسه، لوجدنا أن مدناً مثل بيروت وبغداد أو كراتشي أو المدينة المنورة، ما كانت لتشهد اشتباكات ومجازر بين السنّة والشيعة، لو أن قيادات العالم الإسلامي، تصرفت منذ البداية بعيداً عن العصبية المذهبية ودعت إلى الصلاة جماعة وراء عالم سني أو شيعي من دون تمييز. ولو أنها وضعت نصب أعينها أن الإسلام متعدد المذاهب ولا يقتصر على أربعة فقط، وأنه حمّال أوجه مثل القرآن. مع لفت الانتباه إلى ضرورة اعتراف الشيعة بمحاسن صحابة الرسول، من دون التوقف عند الخلافات، مقابل اعتراف السنّة بأفضال علماء أهل بيت النبوة وأهمية جعفر الصادق في تعليم أئمة أهل السنّة. كل ذلك على اعتبار أن خلافات الماضي لا تخدم مسيرة الحاضر ولا تطلعات المستقبل.
ثمة أسئلة كثيرة تستدعي الوقوف عند أهداف السياسيين في منع ظواهر وحدوية أُجهضت أو توقفت، مثل ظاهرة حزب الدعوة الإسلامي في العراق، الذي توقف عن السير في طريق الوحدة، كما نادى الشهيد محمد باقر الصدر في بداية تأسيسه للحزب. كذلك هناك أسئلة عن عدم تطور ظاهرة حزب التحرير نحو الوحدة، فيما كان بين صفوف قيادته شخصيات شيعية هي اليوم قيادات في حزب الله.
ثمة أسئلة كثيرة عن ظاهرة المذهبية التي تفشت، فيما كان المعنيون بـ«الحالة الإسلامية» نائمين عن تطوير أفكار وتجارب متواضعة، مثل تجربة مسجد المعشوق في صور، التي توصّل خلالها بعض «الوحدويين» من السنّة والشيعة إلى توحيد الآذان.
ولو أنّ حزب الله استكمل ما بدأه مع بعض التنظيمات السنيّة المقاومة في عملية بدر الكبرى الشهيرة، وتجاهل إملاءات القيادة السورية في ضرورة استبعاد عناصر التوحيد والجماعة الإسلامية عن المقاومة، لكانت وحدة الدم والنضال ساعدت كثيراً على عدم نجاح الفتنة من التغلغل في صفوف هذه الحركات، وربما لما وصلت المقاومة إلى هذه المرحلة الحرجة من التهجّم عليها، حيث باتت السيطرة لضعاف النفوس وحاملي الأحقاد والضغائن التاريخية، التي لا تخدم سوى الأعداء ومن يدور في فلكهم من أنظمة بالغة السوء والتبعية.
من خلال رؤية بعيدة عن الحقل الديني، لا بد من التسليم بأن الكل في دائرة الاتهام سواء، والمسؤولية لا تقع على كاهل طرف دون آخر. لأن العنجهية والغرور أصابا الجميع، ولأن السخافة في إطلاق الأحكام والتشدد في ممارسة العبادات، بدوَا أسخف من أن يكون حكماً «إلهياً». بل باتت مصلحة هذا الفقيه أو ذاك في حشد مريديه ومقلديه، هي المقصد الأساس للتشريع. وبات الاجتهاد مجرد كلمة يزايد بها العلماء على بعضهم من دون أن يبلوروا أي حكم لمصلحة الأمة جمعاء.
والإقفال المعلن لباب الاجتهاد عند أهل السنّة، لم يمنعهم من اللجوء إلى القياس (كأحد مصادر التشريع) في قضايا قد تخدم نزواتهم مثل تحليل زواج المسيار والزواج بنية الطلاق (الشبيه بالزواج المنقطع) أو «زواج فريند». ولم يمنع فقهاء السلطان من شرعنة الخيانة كاستدلال غير منطقي بالآية القرآنية، «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع».
وبعيداً عن أوهام العقائد، فإن المتابع للشأن التشريعي في مجال العبادات والمعاملات، لو غاص عميقاً في أتون الاختلافات، لوجد أن التباينات الفقهية حاصلة ليست فقط بين السنّة والشيعة، بل بين المذاهب السنية الأربعة نفسها وبين المذاهب الاثني عشرية والزيدية والإسماعيلية في الطرف الشيعي.
ولو حاكمنا عقلياً شروط قبول الصلاة أو الصوم، عند هذا الفقيه أو ذاك، لبانت تفاهة هذه الاختلافات، وتجلت عورتها؛ وترّهة رؤية قمر رمضان لا تزال سارية رغم تطورات علم الفلك واقتحام الفضاء.
بعد الاستنتاج، أزعم أنّ أكثر المسيئين إلى «قداسة الله» هم المدّعون أنهم متحدثون باسمه وحاكمون بأمره. هم الذين يجعلون الله سخيفاً بحصر تشريعاتهم بمسائل تبعد المسلمين بعضهم عن بعض، وتفرّق بينهم، خلافاً للآية القرآنية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا». وهم الذين أسقطوا مقولة جوهر التشريع الذي من المفترض أن «يجلب المصالح ويبعد المفاسد»، فيما يتبارون في جلب المفاسد على أمتهم وإيقاعها في حبائل الفتن والضغائن لتصبح لقمة سائغة للأعداء. أمام مقولة مقاصد الشريعة، ألا يكون البحث عن فتوى جديدة تقرّب بين شرائح المجتمع المتعايشة أجدر من نفي العلم بوجودها؟
* من أسرة الأخبار