ورد كاسوحة *كما أعادت أزمة الرأسمالية العالمية الاعتبار إلى «أطياف ماركس»، كذلك فعلت مع نداء فريدريك إنجلز الشهير: يا عمال العالم اتحدوا. ولئن بدت هذه الاستعادة متخفّفة بعض الشيء من الغلوّ البروليتاري الذي غلب عليها سابقاً فإنها في المقابل لم تبارح أماكن الاستقطاب التاريخية في التجربة الماركسية. فالماركسيون الراديكاليون لم يشكّكوا يوماً في قدرة صاحب «رأس المال» على تشخيص الأطوار المختلفة للنظام الرأسمالي، حتى بعد غياب الرجل وظهور أشكال معقّدة ومركّبة لرأس المال العالمي. أشكال لم تُتح لماركس ولا حتى لرفيقه إنجلز فرصة معاينتها جيداً، واختبار مدى مطابقتها للتشخيص الدقيق الذي انطوى عليه كتابا «رأس المال» و«إسهام في نقد الاقتصاد السياسي». غير أن العودة الكثيفة إلى ماركس ومؤلفاته هذه الأيام (من الخصوم قبل «المريدين») تثبت إلى أي حد كان هذا الملتحي الكبير مصيباً في تشخيصه لأزمة النظام الرأسمالي. ذلك أن كل ما كُتب في هذا الخصوص بعد وفاته كان يراوح بين حدّين لا ثالث لهما: إما نقض تصوراته جملة وتفصيلاً من جانب منظّري الرأسمالية، أو مقاربتها دوغمائياً من جانب التحريفيين الستالينيين (وهم ذاتهم اليساريون التائبون اليوم)، وهذا يعني أن أحداً لم يقدّم طيلة الحقبة التي أعقبت وفاة ماركس تصوراً بديلاً عن رؤيته المتقدمة للرأسمالية، وإنما اقتصر الأمر على اجترار تنظيراته وإعادة تعريفها، بوصفها بؤرة الطرح البديل عن الرأسمالية.
لذا كان من الطبيعي جداً أن يعود منظّرو الرأسمالية إلى ماركس (لا إلى آدم سميث!) كلما بدأت تلوح في الأفق عوارض أزمة جديدة في قلب النظام، وهي عوارض دورية تتخلل الصيرورة التاريخية للرأسمالية وفق ماركس.
حصل هذا الأمر في عام 1929 بما عُرف لاحقاً بأزمة الكساد الكبير، وكانت نتيجته «أنسنة الرأسمالية» وحملها على تبني معايير ذات طابع «اشتراكي» مثل: تدخل الدولة في الاقتصاد، النزعة الحمائية... والآن يتكرر هذا الأمر مع انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة وصيرورتها لاحقاً أزمة بنيوية في النظامين المالي والاقتصادي. وقد ترتّبت على سلسلة الأزمات هذه تبعات كثيرة لم تكن لتراود منظري الرأسمالية حتى في أسوأ كوابيسهم. إذ لم تعد مصطلحات مثل «التأميم» و«التوزيع العادل للثروة» تصيب الرأسماليين بالهلع كما كان يحدث من قبل، وكفّت عبارة «العودة إلى الاشتراكية» عن كونها إحدى المحرّمات الرئيسية في المجتمع الرأسمالي. وهو مجتمع بقي حتى وقت قريب يشيطن اليسار والاشتراكية ويسِمهما بأقذع الصفات.
وكما تقبّل مجتمع مفرط في رأسماليته ونزعته الاستهلاكية كالمجتمع الأميركي فكرة «التأميم» وشراء الدولة للأصول المسمّمة من البنوك والمؤسسات الائتمانية، كذلك قد يفعل قريباً مع فكرة التنظيم الاجتماعي للمسرَّحين من العمل. صحيح أنّ النظام الرأسمالي المهيمن هناك لم يسمح للقطاعات الأميركية العاملة بعد (ولن يسمح لها في المدى المنظور) ببلورة وعي مطلبي حقيقي كما في أوروبا، لكن مضي المؤسسات الاقتصادية الأميركية في سياساتها المنهجية «لإعادة الهيكلة» (وهو اسم حركي لتصفية «العمالة الفائضة» من دون مقاومة تذكر) قد يدفع بالعمالة الأميركية إلى تنظيم نفسها واستلهام النموذج الأوروبي، إن لم يكن في الاحتجاج المنظم والمنهجي، فعلى الأقل في تصريف الغضب على أرباب العمل بشكل جدي يُشعر هؤلاء بفداحة ما ارتكبوه (لتكن البداية مع احتجاز هؤلاء كرهائن كما حصل في فرنسا). لم يعد هذا السيناريو مستغرباً حدوثه بعد وصول معدلات البطالة في أميركا إلى مستويات غير مسبوقة، وتفشي ظواهر لم يألفها المجتمع الأميركي من قبل. فأن يصل الأمر بالطبقات الوسطى الأميركية إلى فقدان عشرات آلاف المنازل والإقامة في العراء أو في خيم، ريثما تأتي المساعدات من الحكومة الأميركية لهو أمر يشير إلى فداحة الضرر الذي لحق بالنزعة الاستهلاكية المفرطة في ذلك البلد.
وما يصحّ في الولايات المتحدة يصحّ أيضاً في أوروبا، ولكن مع فارق كبير يتعلق بقدرة العمالة الأوروبية المتضرّرة من قرارات الصرف التعسّفي على تنظيم نفسها وإجبار أرباب العمل على تقديم التنازلات، إن عبر العودة عن قراراتهم المجحفة، أو عبر حملهم ومن ورائهم وزارة العمل على إعادة النظر جذرياً في طبيعة النظام المهيمن والناظم للعلاقة بين الطرفين.
وتبدو ذكرى عيد العمال هذا العام مناسبة لمراجعة طبيعة العلاقة بين الطرفين بعد التآكل الذي أصاب نموذجها السابق. ويمكن القول في هذا الخصوص إن استعادة إنجلز وصرخته المدوّية لن تكون ممراً حتمياً لتلك المراجعة، أقله من ناحية الشكل، ولكن هذا لا يعني أن نداء الرجل بات خارج الحركة التاريخية للنضال العمالي. كلّ ما في الأمر أن استعادة ندائه العمالي الشهير باتت تتطلب إدراج هذا النداء في سياق التطور التاريخي للنضال ضد الرأسمالية. ما يعني أن النقاش في هذا الشأن هو نقاش في الشكل لا في الجوهر. وعليه فإن أي مراجعة لطبيعة علاقات العمل لا تأخذ في عين الاعتبار هاجس وحدة النضال العمالي سوف تؤول حتماً إلى المصير الذي آل إليه النظام الرأسمالي في طبعته النيوليبرالية الحالية. فالعلاقات الحالية القائمة على الاستغلال والنهب المنظم قد استنفدت نفسها، ولم تعد قادرة على مد النظام الرأسمالي في المركز والأطراف على حد سواء (في أميركا واليابان مثلاً) بالمزيد من أسباب الحياة. ذلك أن قدرة هذا النظام على النهب قد وصلت إلى أوجها مع الأزمة المالية الأخيرة، ولن يعود بمقدوره بعد الآن ابتداع المزيد من الوسائل المالية المعقّدة «لمراكمة الثروة» (وهي ثروة وهمية).
ألم يكفِ منظّري النيوليبرالية هذا القعر الذي أوصلتهم إليه مركباتهم المالية المسمّمة بعدما أوهمتهم بالوصول إلى ذروة «التراكم الرأسمالي»؟ والحال أن ما وصل إليه النظام الرأسمالي قبل انهيار طوره الأخير من قدرة منظّمة وفائقة التعقيد على النهب يفترض أن يواجه لا بمزيد من التشتت والضياع في أساليب المواجهة، بل بمزيد من التشبيك والتكتل وتوحيد الرؤى وأساليب العمل على المستويين الإقليمي والدولي. من هنا تكتسب التكتلات الإقليمية والدولية المناهضة للرأسمالية والعابرة للقوميات مثل حركة مناهضة العولمة أهميتها، لجهة كونها الطرف الوحيد الذي ينهض حالياً بمهمة نقض النموذج الرأسمالي والحد من هيمنته على علاقات العمل، بوصفها ــ أي العلاقات ــ عجلة التراكم الرأسمالي المفضي زوراً إلى «التقدم» و«الرخاء».
والحال أن الوهن الحاصل في بنية النظام الرأسمالي هو ما يجعل من نداء إنجلز الشهير ضرورة حيوية ومعاصرة في آن واحد. وعودة الروح إلى هذا النداء (بشكله المعاصر) منوطة بإعادة الاعتبار أكثر فأكثر إلى معنى النضالات المطلبية والنقابية. معنى يتجاوز الشكل المفكّك الذي ارتدته هذه النضالات في الحقبة النيوليبرالية السابقة، ويعبر بها إلى أشكال أخرى أكثر تنظيماً وفعالية، وأكثر تماهياً مع روح الأول من أيار.
* كاتب سوري