أحمد فاضلبعد ست سنوات من الإغلاق والإهمال والسطو، ها هو حافظة تاريخنا، المتحف الوطني العراقي، يعود ويفتح أبوابه لمحبيه وعشاق تلك اللقى والأثريات المدهشة لحضارة غائرة في القدم. حضارة ليست ككل الحضارات، فها هي بوابة عشتار تتزين من جديد لملاقاة الأحبة، بينما الثيران المجنحة شرعت بنشر أجنحتها مرحبة بكل هذا القدوم. إنّ عودة متحفنا الوطني لاستقبال زائريه، هو يوم عيد حقيقي لكل من ذرف دمعة على ما آل إليه خلال سني الحرب، ويوم بهجة لكل من اعتصرته الآلام وهو يشاهد هذا النهب المريع لحضارة علّمت العالم، بعدما كان يعيش في الكهوف.
بوشر بتأسيس المتحف الوطني العراقي عام 1926، أي إبان الحقبة الملكية التي حكمت العراق في عهد الملك فيصل الأول (1883ـــــ1933). ويُعدّ هذا المتحف من أقدم المتاحف العالمية، وقد نقلت إليه الآثار الإسلامية لعهود ما قبل تأسيس الدولة الأموية ثم العباسية مروراً بالحقب السومرية والأشورية والبابلية. وممّا يستدعي الانتباه، أن مبناه قد صمّم على غرار بوابة عشتار الشهيرة التي تعرّف عليها العالم من نسخها المعروضة في المتحفين البريطاني والألماني اللذين يحويانها بعدما نُقلت من موطنها الأصلي العراق، إضافة إلى مئات القطع الأثرية من أختام سومرية إلى مسلة حمورابي الشهيرة وجداريات غاية في الروعة نقلت من أماكنها الأصلية في بابل وأشور وأكد.
تلك الأعمال الحضارية الجليلة تجدها في تلك المتاحف، إلا أن متحفنا الوطني احتفظ بنماذج جبسية لمسلة حمورابي وتمثال شبعاد وأسد بابل وغيرها لصعوبة استردادها. إن القيمة الاعتبارية لهذا المتحف بما يحويه من كنوز أثرية مدهشة، ليست فقط مقتصرة على هذه اللقى، بل تلك المدونات التي خطتها يراع النحات العراقي منذ آلاف السنين، وهي شاهد على ما كانت تتمتع به تلك الحضارات من رقي وتقدم انعكست إيجاباً على باقي أجزاء المنطقة في العالم القديم حتى ظهور أولى الحضارات العربية في شبه الجزيرة العربية، وامتداداً لبلاد الشام، بغض النظر عما كانت تتمتع به مصر من حضارة موازية لحضارة ما بين النهرين التي أثبتت المراسلات التاريخية بين تلك الحضارة وحضارتنا، أنّ هناك تمثيلاً دبلوماسياً بين كلتا الحضارتين امتدت حقباً طويلة. وفي سبعينيات القرن الماضي، كنت أحد زوار هذا الصرح الشامخ، فوجدت مجموعة من السياح الألمان وهم متسمّرون أمام إحدى القطع الأثرية السومرية، وشاهدت أحدهم وهو يخرج من بين دفتي أوراق أحد الكتب التي كان يحملها صورة للقطعة الأثرية نفسها المحفوظة داخل صندوق خشبي يؤطره زجاج من جهاته الأربع، وكان هذا السائح الألماني يطيل النظر بين الصورة التي يحملها وتلك الموجودة داخل الصندوق. وفهمت من المترجم آنذاك، أن هذه القطعة السومرية موجودة أيضاً في المتحف الألماني، مما استرعى انتباه هذا السائح المتخصص بالآثار كما يبدو. وأظهر مدى إعجابه ودهشته بها بسبب هذا الكم الموجود في البلد الأصلي العراق ودول العالم، ومن بينها ألمانيا وإنكلترا.
وليس خافياً على أحد، أنّ كنوزنا الأثرية قد تعرضت للسرقة في سنوات عدة على يد البحاثة والمنقّبين الأثريين الأجانب، إضافة إلى مافيا الآثار الذين نهبوا المتحف أثناء
الاجتياح الأميركي للبلاد عام 2003. إلا أنّ كل ذلك لم يمنع الوطنيين من محبي هذه الحضارة العظيمة من استرداد ما يقارب الستة آلاف قطعة أثرية مسروقة وإعادتها إلى وطنها الأصلي ومكانها الطبيعي في هذا المتحف الذي حاولت أن أصفّق له وهو يفتح أبوابه لهذا الكم الهائل من عشاقه الذين تدفقوا إليه. إلا أنني أحجمت عن ذلك متذكراً أنّ مناطق أثرية عديدة من مناطق العراق لا تزال تشكو الإهمال والخراب وتنوء تحت أقدام السارقين الذين لا يزالون يجوبون تلك الأماكن بحرية من دون رادع ولا رقيب أو حسيب.