حبيب فارسعلى عكس ما تروّج له تاريخياً شرائح أساسيّة من الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، بأن هجرة اللبنانيين تعود إلى دوافع «الطموح»، و«حبّ المغامرة» و«الاستكشاف»، وما إلى ذلك من مواصفات «تبجيليّة» للمهاجرين ممن يحلو لها تسميتهم بـ «المغتربين» كأحد أجناس فنون الغش والرّشوة التي تتقنها جيداً، وأباً عن جد، على طريقة «من دهنو قلّيلو»، بقصد إطعام هؤلاء «جوزاً فارغاً»، يبغي أوّلاً وأخيراً، ذرّ الرّماد في العيون، كي لا تنقشع جرائم تهجيرهم الثابتة منذ تثبيت دعائم النظام الإقطاعي ـــــ الطائفي، والموسميّة، وذلك إثر كلّ حرب أهليّة دمويّة، هي جزء لا يتجزّأ من ديمومة هذا النظام.
وعلى عكس كلّ ذلك، تعرف الغالبيّة العظمى من المهاجرين اللبنانيين، أن هجراتها المتواصلة والمتتالية، ما هي إلا للبحث عن لقمة العيش الكريمة أو عن شروط المواطنة الحقّة والأمن والسلام، أو كلّها مجتمعة، وهي ما عجزت الطغمة السياسيّة المتعاقبة على الحكم عن توفيرها للبنانيين.
وتعرف جماهير المهاجرين، بحكم تجاربها المريرة، وبحكم تعلّقها بوطنها الأمّ وتحسّرها الدائم للعودة إليه والعيش في ربوعه، أنّ هجرة الإنسان، أو تهجيره، من وطنه الأمّ، هي أكبر الإهانات التي يمكن أن يتلقّاها في حياته.
بيد أنّ تلك الشرائح لا تكتفي بدفع «مواطنيها» لتلقّي أمّ الإهانات، بل هي تلاحقهم بإهاناتها المتتالية، حيث ذهبوا. إهانات من لا يعرف أو يتعرّف على مهاجريه، إلا في مواسم «الشحادة» التي تتطلّبها مقتضيات تدعيم الأوّلين لمواقع نفوذهم وتسلّطهم على رقاب اللبنانيين المقيمين، المغلوبين على أمرهم، ممن لم «يحالفهم الحظ» بالحصول على «شرف الاغتراب». آخر الاختراعات «الإهانيّة» لهؤلاء، وبنوع خاص قوى ما يسمّى بفريق 14 آذار، هي النشاط الحثيث لزجّ المهاجرين اللبنانيين في أفقع وأبشع عمليّة تزوير لأخطر استحقاق انتخابي نيابي لبناني منذ عقود.
وأمّ فضائح هذا النشاط التزويري السافر، أنّ أحد شعارات معركته الرئيسيّة هو «من أجل بناء دولة السيادة والقانون». فتحت هذا الشعار «السيادي ـــــ القانوني»، لا تتوانى الماكينة الانتخابيّة لهذا الفريق السلطوي، عن ارتكاب أكبر منكرات الاعتداء على السيادتين اللبنانيّة والأوستراليّة وعلى قوانين لبنان وأوستراليا، على حدّ سواء.
لقد شهدت أوستراليا، في الأشهر الأخيرة، كغيرها من بلدان المهجر، ما يشبه الجسر الجوي لأقطاب وأعضاء بارزين في فريق «الحريّة والسيادة والاستقلال»، ليس آخرها إلا زيارة الدكتور أحمد فتفت (الذي من المفترض أنّه يخطب في مهرجان لـ«تيّار المستقبل» في مدينة سيدني أثناء كتابة هذه السطور). ولقد حرص هؤلاء «القياديون» على اصطحاب مجموعة من المخاتير والمفاتيح الانتخابيّة مع استمارات الاستحصال على بطاقات الهويّة اللبنانيّة، بهدف إعادة «لبننة» ما أمكن من المهاجرين، كمقدّمة للتصويت نيابة عنهم خلال استحقاق حزيران الانتخابي.
وبينما كان من المفترض أن تجري هذه العملية التزويريّة سرّاً، عجزت الماكينة «الأربعتعش آذاريّة» عن إبقائها موضع الكتمان، بسبب اتساع الحملة من جهة، ومن جهة أخرى لرفض العديدين من أبناء الجالية، بمن فيهم عدد كبير من الذين كانوا بالأمس من أنصار هذا الفريق، ليكتشفوا فجأة خداع شعاراته.
وما إن بدأت رائحة هذه الفضيحة تزكم أنوف المهاجرين والمقيمين اللبنانيين في آن، حتى بادر ـــــ على الطريقة المألوفة لأرباب السلطة اللبنانيّة ـــــ بعض مسؤولي هذا الفريق وأجهزة إعلامه ومناصريه هنا، إلى عملية هروب إلى الأمام، مبررين الأمر، بأنه «تقليد لبناني يمارسه الجميع»، من دون أن تفوتهم المفاخرة بـ«شطارة هذا الفريق مقارنة بغباء خصومه السياسيين».
ما لم ينتبه له هذا الفريق «الشاطر جداً»، في تبريراته، أن بين اللبنانيين المهاجرين، عشرات الآلاف ممن هم، بحكم إقامتهم الطويلة في بلد ينعم بالسيادة وبسيادة القانون، قد «خرجوا عن ذاك التقليد» وتمرّسوا في تطبيق القانون واحترامه والتمنّع عن الإساءة لسيادة وطنهم الثاني.
من مخالفات أصحاب مشروع «بناء دولة السيادة والقانون» للقانون اللبناني، تعدّي المخاتير اللبنانيين حدود صلاحياتهم وتوسيعها لتطال مواطنين لا يقيمون في دوائرهم الانتخابيّة، بل ولا حتى على الأراضي اللبنانيّة، وبالتالي تعدّيهم على صلاحيات البعثات الدبلوماسية اللبنانيّة، صاحبة الحق بإنجاز معاملات الحصول على الهوية اللبنانيّة. ومن مخالفات القانون اللبناني أيضاً، تبييت هؤلاء لعمليّة التصويت نيابة عن المهاجرين. ومن مخالفات القانون الأوسترالي والتعدّي على سيادة أوستراليا، ممارسة هذه العمليّة خارج التنسيق الرسمي بين حكومتي البلدين. ناهيك عن أن هذه المخالفات والتعدّيات تشمل تشغيل «مفاتيح انتخابيّة» في أوساط الجالية اللبنانيّة، من أعضاء مجالس بلديّة من أصل لبنانيّ، انتخبوا إلى المواقع التي يحتلونها بأصوات أوسترالية، ليمثلوا ويخدموا ناخبيهم المقيمين في أوستراليا، وعدم تجيير خدماتهم وتمثيل مواطنيهم أو ولائهم لسياسيين في دولة أخرى.
وهناك عدد لا حصر له من إساءات وخروقات هذه الممارسات الفظة، للتقاليد والأعراف الدبلوماسية والبروتوكوليّة القائمة بين البلدان ذات السيادة. لكنّ الإساءة، بل الإهانة الأكبر، هي تلك التي يوجّهها، من جديد، وبدم بارد، أقطاب هذا الفريق لكرامة جماهير الجالية اللبنانيّة، عن طريق الاستخفاف بذكائها ومحاولات شراء ذمم بعض أعضائها أو زجهم من جديد في عمليات فساد من النوع الذي كان من أسباب ابتعادهم ـــــ أو إبعادهم ـــــ عن الوطن الأمّ.
من مفارقات «مجوقلي» الرابع عشر من آذار، أنهم في جميع لقاءاتهم الشعبيّة والإعلاميّة، يَعدون مناصريهم بفوز فريقهم، الساحق والأكيد، في الانتخابات النيابيّة المقبلة، ما جعلهم وفريقهم، موضع تندّر معظم أبناء الجالية، حيث بإمكان المرء، أينما كان بين أبناء الجالية، أن يسمع التعليق نفسه: «إذا كانت المعركة النيابيّة محسومة، سلفاً، لمصلحتهم، فلماذا لا يريحوننا من ثقل دمهم؟».