وائل عبد الفتاحمجنون جديد على الطريق. هذه المرّة ألقى زجاجة حارقة على محطّة مترو وهرب. لم تنفجر الزجاجة. لكنّها تركت غموضاً جديداً على ما يحدث في مصر. ركّاب المترو مصريّون عاديّون. أغلبهم من شرائح متوسّطة تبحث عن وسيلة مواصلات رخيصة وسريعة في عاصمة مخنوقة بأزمات المرور.
المجنون الهارب ليس مجنوناً بالطبع. إنّه حامل رسالة فرديّة تعبّر عن غضب مكتوم حرّكته قنبلة المشهد الحسيني. وربما يكون في الزجاجة رسالة تفجير للقلق الكامن من المستقبل في مصر. رسالة هدفها تركيز الشعور بالخوف في منطقة معيّنة: الإرهاب الفردي والجماعي.
هل هناك علاقة بين قنبلة الحسين وزجاجة المترو والهَوَس الذي أصاب عاملاً فقيراً فأخرج مطواة قصّ الأظافر وطعن بها مدرّساً أميركيّاً يعيش في القاهرة؟ حامل المطواة «مختلّ عقلياً» كما وصفته الأجهزة الرسمية. وهذه ليست نوبة الهياج الأولى التي تصيبه من الأجانب. لكنّ هياجه انفجر في موسم «قلق» جديد.
المعارضة تتخيّل أنّ هذا الموسم من فعل أصابع حكوميّة تمهّد الأرض لتمديد قانون الطورئ أو تمرير قانون الإرهاب. وهو تخيُّل صحيح بالقياس إلى غواية إدارة الرئيس مبارك بالدراما لتبرير خطايا قانونية.
لكنّ موسم القلق هذه المرّة مختلف. والحوادث كلّها قريبة من حالة هوس أو جنون لحظيّ أكثر منها عمليّات مدبّرة. جنون صغير يستطيع الهرب من متاريس الأمن المنتشرة بحضور قوي وملحوظ في كل مكان. وهذا يثبت فشل نظرية الدولة البوليسية وقبضة النظام القوية التي قد تنجح مع تنظيمات كبيرة، لكنها غالباً ما تفشل في انفجارات تتحرّك بقوى غامضة.
هل هناك قوى من مصلحتها زعزعة «صورة النظام القوي» في لحظة يستميت فيها للحفاظ على موقع «زعيم العالم العربي»؟ إنها نظرية المؤامرة المريحة للنظام المرتبك في التعامل مع موسم القلق الجديد. هل يروّج لمؤامرة إقليمية؟ أم يثير الرعب من تنظيمات جديدة؟ أم يتركها لتفسيرات الخلل العقلي والحوادث الفردية؟ الارتباك هو العنصر المكمل في نظام يبدو من بعيد أن قراراته يحكمها الخوف. وغريزة البقاء هي عقيدة كل رجال النظام... كلهم يحاربون لاقتناص أكبر مساحة من تركة الرجل المريض. والمريض... يشعر بالقوة من طول الاستمرار... والضعف من هجوم المرض والعمر الطويل.
وبين القوة والضعف... تكبر شراسة غير مسبوقة. تنقل عدواها للمقربين من قصر الرئاسة وتتحول إلى حرب على كل شيء من مكان في السلطة إلى قطعة أرض أو صفقة طائرة. ضحايا حرب من هذا النوع بالملايين. قد يكون من بينهم مجانين الحوادث الأخيرة قرروا فجأة أن ينتقموا بدون اتفاق، أو باتفاق المزاج العام. وبالدرجة نفسها يمكن أن تكون الأصابع الخبيرة قد حرّكت هذا القلق غير الموجع الذي يبدو من بعيد بدائيّاً ومن صنع هواة.
كلا الاحتمالين وارد، ويعبّر بعيداً عن النتيجة ذاتها: مصر تعيش لحظة قلق أوّلاً بسبب توازنات المنطقة الجديدة. مبارك يقاتل من أجل الاستمرار في المكانة نفسها رغم الرياح العنيفة. يتحمّل سخافات إسرائيلية ويستخدم أسلوب الدلال والضغط ليصل بسفينة المصالحة الفلسطينية إلى برّ يخصّه بالأساس. وثانياً هناك كلام على المستقبل. فالشريك الأساسي في عملية المصالحة هو الجنرال القويّ عمر سليمان، مرشّح الخلافة في مواجهة أحلام جمال مبارك في وراثة عرش أبيه.
لا يمكن التكهّن بوجود صراع في حياة مبارك الأب. لكن الوجود المتعاظم للجنرال في الملف الفلسطيني يعني حضوراً قوياً في ترتيبات السلطة. إن لم يكن بالخلافة، ففي ترتيبات متّفق عليها يحجز فيها «جناح الدولة القديم» (الجيش والمخابرات ومراكز القوى في الحزب) مكانهم أو تأثيرهم على جمال، مرشّح العائلة ورجال الأعمال ومجموعات من ليبراليين يرون فيه رئيساً مدنيّاً.
القلق في أسفل المجتمع انعكاس بشكل ما لتحرّشات الأجنحة في أعلى السلطة.
وهذا ما يحمله جمال مبارك معه اليوم في زيارته لأميركا. يتوقّع كثيرون أنها لتحضير زيارة الأب (في نيسان). لكن في الغالب هناك أهداف أخرى، وخاصّة أن تحرّكات جمال مبارك خارج التصنيف السياسي تنتمي إلى طموحاته (السرية) التي تجري عادة بغموض كما حدث عندما اكتشف صحافيون بالصدفة في 2006 وجود جمال مبارك... اكتشفوه وهو على باب البيت الأبيض ليقابل ديك تشيني، نائب بوش.
جمال يريد تقديم نفسه باعتباره «الوجه المدني الشاب للسلطة»، وممثّل «قوة سياسية» من رجال الأعمال وشباب انضموا أخيراً إلى الحزب الوطني لترتفع عضويته إلى ثلاثة ملايين (وهو رقم حرصت قيادات الحزب على التركيز عليه في المؤتمر العام الأخير)... وهو «رئيس الأمر الواقع»، حتى إن طالبة نادتْه في أحد اللقاءات الأخيرة بلقب «سيّدي الرئيس»، واكتفى هو بالابتسام.
سيقول مبارك الابن في واشنطن إنه رقم في المعادلة وليس مجرد الوريث. وهذا هو أحد أسباب القلق العام في مصر... قلق يدفع إلى تأييد مبطّن للجنرال سليمان كرد فعل رافض لمشروع التوريث بالديموقراطية.
كلاهما، الابن والجنرال، لا يعبّر عن أشواق أو مشاريع جديدة. إنهما مجرد خلفاء سيؤكدون استمرار النظام لا انتقاله إلى مرحلة حقيقية في بناء الدولة الحديثة. إنها مواسم القلق المصري... قلق أكبر من مهاويس الشوارع ومجانين الحكم... قلق البحث عن البلد.