عندما يختار زوجان لبنانيان العيش في بلد أجنبي، نادراً ما يطرحان الأسئلة عن الهوة التي ستفصلهما عن أولادهما عندما يكبر هؤلاء، وهذا لا يعني أن التناقض واقع لا محالة. لكن الأهل لا ينسون انتماءهم الأول، ولا يسعون لتعويد أولادهم على لغتهم الأم وعلى الانتماء إلى أوطانهم الأولى، ويتنبّهون إلى وجود مشكلة حين يختار الأبناء الانتماء ثقافياً إلى المجتمع الذي ترعرعوا في أحضانه

خضر سلامة
قبل عامين ونصف عام، أثناء حرب تموز، شارك بيار في التظاهرات المنددة بإسرائيل، خلال التظاهرات تعرّف إلى مجموعة طلاب لبنانيين يعيشون في مدينة ليل الفرنسية. كان اللقاء مناسبة لبدء بيار، العشريني، رحلة بحث حثيثة عن جذوره. البداية الحقيقية لهذه الرحلة كانت من خلال إعادة التواصل مع أبيه اللبناني الذي طلّق زوجته الفرنسية (والدة بيار) قبل سنوات طويلة.
ثم قام الشاب بزيارة لبنان مرات عديدة خلال عامين، وتقرّب من اللبنانيين الذين يعيشون في فرنسا ولم تنقطع علاقاتهم بالوطن الأم... وأخيراً تسجّل بيار في معهد لتعلّم اللغة العربية، «لم أحمل الكثير في طفولتي من معرفة لثقافة أبي وأصوله، وعندما كبرت، بدأت الحشرية تتسرب إلى وعيي، وتدفعني لاكتشاف هويتي الثانية وتعويض ما فاتني» يقول بيار، أما أبوه، فما زال يتحسر على «غلطة كبيرة ارتكبتها، تركت الأولاد مع زوجتي السابقة، ولم أعرِّفهم إلى أرضهم، والآن، أشعر بأنهم غرباء عني، بعد عشرين عاماً من الانفصال في مجتمعين، وثقافتين، وجوّين، تبدو الهوة واسعة جداً بيننا».
هي هوة إذاً، يشعر بها الكثيرون ممن اختاروا أن يؤسسوا عائلاتهم في الغربة. قد يحمل الوالد، أو الوالدان، ذكرى وثقافة لبيئة ترسخت في الذاكرة والسلوك، ولكن الأولاد يتعرضون في حياتهم اليومية إلى مقاييس أخرى، مختلفة، وأحياناً متناقضة، وهي بالتأكيد تنتمي إلى المجتمع الذي يعيشون وينمون فيه. وهذا ما دفع مريم، الأم الأربعينية، إلى إقناع ابنتها التي ولدت وتربت بعيداً عن أجواء الأم الدينية، بالانتساب ولو متأخرة إلى دورات تعليمية تقيمها بعثات دينية، «أقنعتها بأن الدورة ستساعدها على التعرف إلى أجواء أسلافها وثقافتهم».
فرانسوا ستدلير، البروفسور في العلوم الاجتماعية، يجيب عن سؤالنا بشأن معضلة انتماء الأهل إلى بيئة، فيما ينتمي الأولاد إلى بيئة مختلفة. ويعود ستدلير إلى جذور المشكلة: «علينا أولاً أن نتفق على أن الثقافة تُكتسب، ولا تورّث جينياً، بمعنى أن الأطفال، كما الآباء، اكتسبوا ثقافتهم من مدرستهم، وأصدقائهم، وتجاربهم اليومية، وقوانين المجتمع المدني، ونوعية المواد الإعلامية والاستهلاكية المقدمة، وتالياً فإن اختلاف هذه المكتسبات ومعطياتها بين الأهل والأولاد، سيؤدي إلى اختلاف أو تناقض في الآراء والسلوكيات».
ستدلير يشدد على «أن مشكلة العائلة الناشئة في الغربة تكمن في أن الوالدين اللذين يجب، نظرياً، أن يشاركا في تقديم المواد التعليمية والتربوية للأطفال، كي يحمل هؤلاء ميراثاً مشتركاً معهم، غالباً ما يكون الأهل إذاً محكومون بعامل الوقت والعمل، وضعف السلطة أمام تمرد الأطفال أو ثقة هؤلاء بالقوى الخارجية كالأصدقاء والمدرسة وغيرها، أكثر من ثقتهم بالأهل الذين يبدون هنا وكأنهم «دخلاء» على اللوحة الاجتماعية التي يعاشرها الأولاد كل يوم!».
«من هنا»، يكمل البروفسور، «نشهد غالباً تصادمات بين الأهل والأولاد، كل يملك رؤيته الخاصة للحياة اليومية، الأهل، القادمون من مجتمع شرقي، قريب من الدين، عربي اللغة، في مقابل ولدٍ يعيش حالة ازدواجيةٍ تربوية، ولغوية، تجذبه العوامل الأقوى المؤثرة نفسياً، وفي الوقت نفسه، يشعر بالحاجة إلى التمرد على ما يراه حدوداً قاسية من الأهل، ويرونه هم، حدوداً طبيعية تربوا عليها!».
لكن ستدلير يلفت إلى أن «معظم الأولاد في العائلات الفرنكو ـــــ لبنانية، أو الفرنكو ـــــ شرقية، بعد أن تتطور شخصياتهم ويستقلوا بقراراتهم، يعودون دوماً للبحث عن جذورهم وتعلم لغة آبائهم أحياناً، في جموح طبيعي للفرد لاكتشاف ما تمرد عليه ورفضه سابقاً، أو عانى معه، ولتحقيق توازن نفسي ومعنوي، يضمن اكتمال النمو والمعرفة اللازمة للفرد بحالته الفردية».
وينصح ستدلير الأفراد الذين ينوون تكوين عائلة في الغربة بـ«الحل الوحيد لتفادي مشاكل مستقبلية ضمن الأسرة الواحدة، أي إعطاء الطفل الفسحة اللازمة من وقت الأهل لتزويده بما يمكن أن يؤمن توازناً على الأقل مع ما يتلقاه من الخارج، نعطيه معرفتنا وسلوكنا وقيمنا، والطفل ـــــ الإنسان، قادر في وعيه، إذا تأمنت له رعاية جادة غير مستهترة، على أن يؤسس لميزان قيمي وأخلاقي وثقافي في شخصيته، يخفف كثيراً من التناقضات الممكنة مستقبلاً، والأهم أيضاً، أن نؤمّن له المعرفة اللغوية (أي لغته الأم)، لأن اللغة مفتاح ضروري للثقافة السلوكية والحضارية والعلمية، على العائلة حفظ علاقة دورية بالوطن، تُنشئ الطفل على إدراك لهويته الثانية وشكلها».


قضايا الشرف

قبل نحو عقد من الزمن، هزّت المجتمع الهولندي محاولة قتل قام بها أب ضد ابنته. الأب تركي والابنة وُلدت وكبرت في أوروبا. هنا تعلمت كلماتها الأولى، وهناك تابعت دراستها، في المدرسة والجامعة، وفي هولندا عرفت كل أصدقائها، فكان من الطبيعي أن تختار الانتماء لهذا البلد. ولكن حين اختارت الابنة أن تعيش مع حبيبها الهولندي ثار الأب، وأراد «الدفاع عن الشرف».
سلّطت هذه القضية الضوء على الهوة بين المهاجرين الشرقيين وأبنائهم، ونذكّر بأن تراجع أعداد فرص العمل في لبنان يدفع الشباب والشابات إلى البحث عن لقمة العيش في الولايات المتحدة أو كندا أو أوستراليا... وهناك سيواجهون أسئلة تتعلق بكيفية تربية أبنائهم