ناهض حتر *الوصف الذي أطلقه السيد حسن نصر الله على فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، بأنه «نصر إلهي»، نال الكثير من النقد بل والتهكّم من مواقع «علمانية» مدّعاة أو صادقة. لكن، بالنسبة إلى عقل علماني تاريخيّ وجدليّ، يمكن قراءة ذلك الوصف بأنه نصر حتميّ أو أنه بالأساس نتيجة لتفاعلات تاريخية موضوعية، غير إرادوية. وعلى مستوى هذا الفهم بالتحديد، فإن «نصر» 2006 اللبناني، ليس «إلهياً» على الإطلاق. ذلك أن قدرة حزب الله على التصدّي الناجع للعدوان، لم تكن شأناً حتمياً، بل كانت «مفاجأة» أو سلسلة من «المفاجآت» زلزلت، لكونها مفاجآت بالذات، اليأس العربي العميق، ومنحت حزب الله وأصدقاءه وحلفاءه كل ذلك الزهو بالذات. وهو زهو له ما يبرّره. ذلك أن «النصر» المعنيّ كان تجلياً لقدرة الإرادة الحزبية والقيادية للمقاومة، لا لقدرة لبنان، مجتمعاً ودولة وثقافة.
إنه «نصر» إرادويّ حدث على رغم الحتمية المعاكسة، حتمية الهزيمة. أنجزته إرادة محفوزة بالدفاع الأقلويّ الطائفي المتماسك عن الذات، ومدعومة دعماً كاملاً سخياً وغير مسبوق، من قوى إقليمية أساسية. على هذا المستوى من الفهم، لا على المستوى العقائديّ لقيادة حزب الله، يمكننا نقض التوصيف. ومناسبة هذا النقض أننا اليوم بإزاء نصر إلهيّ حقاً هو الذي حققه ويحققه العراق على أعتى إمبراطورية عرفها التاريخ، الإمبراطورية الأميركية، وفي ذروة تحققها الجنونيّ.
بمناسبة إعلان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، برنامج الانسحاب من العراق، لن تعقد جهة عراقية ما مهرجان نصر، على رغم الدويّ التاريخيّ الكونيّ لهذا النصر. ذلك أنه نصر من دون أب سوى الحتمية الدينامية للصدام التاريخي. حتمية كان يمكن العقل الجدليّ أن يشاهدها وهي تتحقق، لا محالة، وسط ركام هائل من المظاهر المعاكسة. كان ذلك، وهو الآن، ينتمي إلى الإلهيّ، لا الأرضيّ. وكانت رؤيته المبكرة تتطلب عقلاً نبوياً قادراً على التقاط حكمة الكونيّ في اليوميّ المضاد.
ولن يزهو العراقيون بنصرهم، بل سيتابعون المضيّ قدماً كأن شيئاً هائلاً لم يحصل، بل على العكس، سيكون هناك الكثير من الحزن الغامض، ذلك الحزن العراقيّ الذي وصفه مظفر النواب بأنه «جميل جداً».
لم تكسر المقاومة العراقية ـــــ بمعناها الشامل ـــــ المشروع الإمبراطوري الأميركي بمشروع إرادويّ موحد مصمّم، بل بتضارب إرادات داخلية وصلت حدّ الحرب الأهلية المفجعة. وكان العراقيون يقاتلون على جبهتين، ضد الاحتلال وضد أنفسهم في الآن نفسه وبالضراوة نفسها. ولم تحظَ المقاومة العراقية بأي دعم إقليمي. على العكس، شهدت تدخلات إقليمية مدمرة، أبرزها التدخلان الإيراني والسعودي. وكلاهما مدفوع بهدف لا يخفى، منع العراق من النهوض لا بوصفه قوّة إقليمية فقط، بل حتى بوصفه مجتمعاً وثقافة وبشراً.
وإذا كان لطهران والرياض الدور الأكبر في إثارة الحرب المذهبية الأهلية الشاملة، ومساعي لجم المقاومة العراقية والمساومة عليها، فإن دول الإقليم وقواه ـــــ حتى الصغرى ـــــ لم ترتدع عن غرس سكاكينها في عراق قدّر العميان عن الرؤيا الإلهية أنه قد تفكك وانتهى.
على المستوى الفكري والإعلاميّ، لم يحدث يوماً أن تعرضت حركة مقاومة لما تعرضت له المقاومة العراقية من التجاهل والتشويه والظلم والطعن، حتى من جانب قوى تزهو براية المقاومة ـــــ مثل حزب الله ـــــ الذي ظنّ قادته ومشايعوه أنه من الممكن أن يتجسد الله في حزب طائفة لبنانية تماحك على الثلث الضامن في حكومة بقيادة الكمبرادور، بينما الله يتجلى، بكل طاقته الكونية، في بلاده، بلاد الرافدين، مصلوباً وجريحاً كالمسيح ومقاتلاً كمحمد، ويمنح إشارات التجلي لمَن يستطيع أن يرى الإلهيّ في ظلام الشياطين.
التأييد الجماهيريّ العربي للمقاومة العراقية، كان هو الآخر كارثة عليها. فبينما لم يتأطر ذلك التأييد في مجال سياسي أو دعم مادي، كان حافزه الأساسي طائفياً معادياً «للمشروع الشيعي»، حتى إنه غضّ نظره أحياناً عن جرائم المحتلين الأميركيين لكي يركّز على جرائم الإيرانيين بحقّ العراق، المضطهَد من جانب الجميع، والآتي حتماً على صهوة مرحلة تاريخية جديدة.
إيران، المتجذرة في نزوع قومي قديم، وقفت دائماً، محفوزة بمصالح ظاهرة، ضد الكيان العراقيّ، سواء في العهد الشاهنشاهي أو في العهد «الثوري» الذي أيقظ مشروعاً قومياً جريئاً جداً، اصطدم ـــــ ولم يكن من ذلك بد ـــــ بالمنافس العراقيّ، فكانت الحرب التي رآها الطرفان، وربما عن حق، عادلة.
وعلى كل حال، فإن نظام صدام حسين ـــــ على نقدنا الجذري له ـــــ كان أكثر تقدماً، بمعايير التاريخ، من جمهورية الملالي. ثم إنه لم يكن مقصوداً بذاته، بل لكونه يحول دون التمدد الإيراني في البلد المنافس.
وباتجاه الولايات المتحدة نحو الإمبراطورية، اكتشفت العائق العراقي الموضوعي في الشرق الأوسط. العائق المتمثل في مجتمع محدّث وأصيل وثري وقادر على استلهام التقانة وتنظيم حرب عصرية ناجحة. فاتخذت قرارها المبكر بتحطيمه و«إعادته إلى العصر الحجري». وهي عملية محورية في السياسة الأميركية، استمرت منذ حرب «تحرير الكويت»، مروراً بسنوات الحصار، وليس انتهاءً بالغزو عام 2003. ذلك الغزو الذي كان نبيّ المحافظين الجدد، بول وولفوفيتز، قد رآه مبكراً، مدخلاً إجبارياً لبناء الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، انطلاقاً من تأمين مركزها في العراق.
غير أنّ ذلك المشروع كان محكوماً بالفشل الحتمي. فالإمبراطورية الأميركية ـــــ على عكس مثيلاتها السابقات الأوروبيات ـــــ لم تكن مدفوعة بفائض مالي وتجاري يبحث عن أسواق واستثمارات، بل بعجز مالي وتجاري غير مسبوق في التاريخ، ما جعل الغزاة مجرد قطّاع طرق، والإمبراطورية مشهداً كوميدياً يقوده مهرج مثل جورج بوش، بينما كانت عوامل المركزية العراقية المطلوبة لتأسيس الإمبراطورية، هي نفسها العوامل التي أدت إلى الحريق العراقي الذي تلظّت به، عسكرياً ومالياً وسياسياً ومعنوياً، القوة الأميركية الآفلة.
الآن يتضح للجميع ـــــ وخصوصاً بعد الأزمة المالية الاقتصادية المزلزلة المتفاقمة في الرأسمالية الأميركية والعالمية، أن حرب العراق ـــــ بالذات ـــــ كانت فوق طاقة الولايات المتحدة، ليس فقط على تحقيق مشروعها، بل على الحرب نفسها. وسيجري الاعتراف، بعد قليل، بالخسائر الأميركية الفادحة في الحرب، بشرياً وعسكرياً ومالياً، وأثر تلك الحرب في تسريع انفجار الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية.
أثبتت التطورات العراقية أن وحدة العراق الكيانية أقوى من التفكّك الطائفي والإثني الطارئ والعابر، تماماً مثل الحرب الأهلية العابرة. فالتكوين الوطني العراقي، على عكس نظيره اللبناني، ليس طائفياً. والطوائف في العراق ليست كيانات سياسية ثقافية متجذرة يمكنها أن تتحقق وتتعايش في فدرالية واقعية كما لبنان. وليس هنا مكان تفحّص الاختلاف، لكننا نشير، وحسب، إلى ثلاثة عوامل وحدوية هي: 1) أن العراق مركز لا طرف، وليس لأي قوة عراقية ليست مصنّعة في الخارج مصلحة في التخلي عن مركزية لا تتحقّق إلا بالوحدة، 2) أن العراق الموحّد قادر على سدّ احتياجات مجتمعه واحتياجات تطويره من دون تمويل خارجي، 3) أن للعراق ثقافة مجتمعية واحدة تخترق الطوائف والإثنيات، ولا يستطيع العراقي أن يحضر أو يحيا خارجها. وهذه مرتكزات أساسية في الوطنية العراقية يمثّل تجاوزها انتحاراً يرفضه العقل الجمعي العراقي حكماً.
معركة العراق لم تنته، وستتواصل فصولاً. هناك أولاً، تصفية الغزو الأميركي وآثاره السياسية. وهناك ثانياً، تصفية التيارات والقوى الانفصالية. وهناك ثالثاً، وقفة حساب شاملة مع إيران التي ستواجه الخيار، عما قريب، بين الاعتراف الصريح بالعراق بوصفه قوة إقليمية، وبالتالي التعاون، والمواجهة. الأمر نفسه ينطبق على تركيا. أما في ما يتصل بالخليج، فسيجد نفسه، شاء أم أبى، طرفاً للمركز العراقي.

* كاتب وصحافي أردني