ريمون هنودفي المنطق السليم، تعدّ مقولة «لبنان أولاً» من أجمل الشعارات الطنّانة الرنّانة الباهرة، ويجب أن تكون قوت الإنسان اللبناني الأصيل المتجذّر بأرضه والرافض للهجرة التهجيرية رغم أحواله المادية المتردية السيئة والمرجحة نحو التفاقم.
ولكن ما يحدث خصوصاً منذ عام 2005 إلى يومنا هذا، يشير بوضوح إلى أن أمراء الطوائف وحيتان المال من آخر اهتماماتهم أن يكون لبنان أولاً، لأن من أهم أولوياتهم عبادة الطائفة والتفرغ لإعلاء شؤونها السياسية، وهم في ذلك يعزفون على الوتر الحساس نتيجة معرفتهم بطبائع الشعب اللبناني المتيَّم بالشعارات الطائفية. وهم كما القاضي الراضي، فهذا الجوّ مؤاتٍ لهم لاقتناص الفرص بهدف ترسيخ زعاماتهم داخل إماراتهم أكثر فأكثر. لذا فإن التكتيك المتّبع هنا هو صبّ الزيت على النار والإضرام والتأجيج بدلاً من الإخماد.
وهنا لا بد من الإضاءة على بعض الأشياء التي تصيب نفوس أبناء شعبنا المغرّر بهم في اللاوعي، لأنهم في الظاهر يجاهرون بحب الوطن وتصدح أصواتهم فداه علانية، أما حقيقة الحقائق فإنّه في الباطن وفي خبايا نفوسهم ولاؤهم للطائفة، وللطائفة فقط، مما يسقط عن وجوههم الأقنعة الزائفة. وهنا لا بد من تناول الجميع من دون استثناء. يمحض أكثر من ثمانين في المئة من السنّة الولاء لتيار المستقبل وآل الحريري. البعض يقول إن ولاء أغلبية السنّة لتيار المستقبل مردّه إلى امتلاك هذا التيار الأموال الطائلة الهائلة، قد يكون هذا من أحد الأسباب لكنه ليس السبب الوحيد اليتيم الأساسي. فالسبب الأساسي هو طائفي بامتياز، لأن تيار المستقبل يمثّل رأس حربة هذه الطائفة التي تخوض صراعاً سياسياً مع الطائفة الشيعية الموالية بأغلبيتها لحزب الله. إذن ما علق في أذهان السنّة في لبنان هو أن تيار المستقبل يمثّل صمام أمان لردع الخطر الشيعي عن طائفتهم. وهذا لا ينطبق طبعاً على سنّة آخرين كالرئيسين الحص وكرامي والنائبين أسامة سعد وعبد الرحيم مراد وكمال شاتيلا الذين يرون أن قوة لبنان في مقاومته «الشيعية»، وهذا ما يفسر تماماً ظفرهم بتأييد عشرين في المئة من أبناء الطائفة السنية فقط.
والشيء عينه يسري على الطائفة الشيعية. فولاء تسعين في المئة من أبناء الطائفة الشيعية هو لحزب الله ليس فقط بسبب انتصارات المقاومة الإسلامية المبينة المشرّفة على الجيش الصهيوني بل لأن الشيعة يرون في حزب الله المدعوم من إيران حائطهم المنيع الذي يصد سياسات تيار المستقبل «الخطرة» عليهم (حسب اعتبارهم)، التي تدور في فلك ما يسمّى الاعتدال العربي «السنّي».
أما على الساحة المسيحية، فهناك انقسام واضح، وحالة تخوين مستشرية. فالعماد عون يتهم مسيحيي الرابع عشر من شباط بإضعاف المسيحيين عبر ولائهم للسياسة السعودية، أو كما يحلو للجنرال تسميته «محور البترو ـــ دولار»، بينما يرد مسيحيو الرابع عشر من شباط على عون باتهامه بإضعاف المسيحيين وأخذهم إلى المجهول عبر ولائه للمحور السوري ـــ الإيراني:
واحدٌ خائف على الطائفة من الإمبراطورية السنية العربية الكبرى، والآخر خائف عليها من الإمبراطورية الشيعية الأكبر في العالم.
إنّ الأمور في لبنان باتت مؤسفة مزرية مأساوية، ونحن شعب يجب أن يخجل قبل أن يتفوّه بكلمة: «بحبك يا لبنان»، فالقضية أمست واضحة مثل عين الشمس، إنها قصة الحب بين اللبناني وطائفته. إنها قصة حب أقوى بأضعاف وأضعاف من حب روميو لجولييت وقيس لليلى وعنتر بن شداد لعبلة. فمتى نستفيق ويصبح ولاؤنا للبنان العربي العلماني الديموقراطي، ولسان حالنا يقول: «أنا خائف على وطن ولست خائفاً على طائفة؟»، وبالمناسبة لا داعي إلى أن نفرح كثيراً إذا حذفنا هوية المذهب عن إخراج القيد، ولم نعمد في المقابل إلى حذف الطائفية من النفوس، لأن الحذف عندها يكون مجرد محو حبر عن ورق.