أحمد محسنI
تذكّرت صديقاً أمس. استحلتُ تلفازاً، وصار وجهي مستطيلاً، يتابع وصول الصور من المدن المظلمة. ذكريات تُدمي القلب فرحاً، تأتي مشوشة، ويا ليت ذاكرة البشر إلكترونية. الهواء أشد صلابة من أظافري، ويقتلعني من مكاني مقهىً قديم كنا نتسكع فيه. يهاجم عنصران آخران رأسي الضعيف: منازل بلا أضواء، وسيارة ميتة تكاد تقف فجأة. أود لو أوقف البث فوراً، وأحيط صديقي علماً بأنّ بلجيكا بعيدة جداً. الوحشة غير مهمة في مثل هذه الحالات، والموت ضروريٌ أحياناً للتصديق أنّ صيرورة الإنسانية على ما يرام. رغم كل ذلك، من الصعب التصديق أنّه ليس هو، ذاك الظل الذي يجلس على الكرسي، ويحدّق في وجهي بلا رحمة.
II
تأخذ ملامحي شكل القبور الباردة. أرتدي كفناً افتراضياً وأشهر عيناً في وجه الأوجاع الحادة. محاولة جديدة للابتسام تبوء بالفشل، ويسقط من السماء شيطان. ماذا تفعل الشياطين في السماء؟ أتلعب البلياردو ويطردها الله إذا خسرت؟ أفكر في وحدتي. أثقب الزمن بإصبعي، وتصبح الشوارع أكثر ضيقاً، والأحلام أكثر ألماً. مشكلتي التاريخية مع الوقت، أنّي لا أفهمه، مع أنّ الناس يستعملونه في كلّ شيء: في انتظار عودة التيار الكهربائي، في انتظار الأحباء في الحدائق وفي انتظار الموت. أنتعل الأرض حذاءً، أبتسم ضد الوقت، وأبحث عن صديقي، كحشاش يبحث عن سيجارة في علبة فارغة.
III
غير قادر على الحراك. أضع وجهي في الثلاجة، وينفطر قلبي داخلها كشطيرة بيتزا.
IV
فات محمد شُكري أن يصبح ملاكاً. بوكوفسكي منكب على عاهراته. ينقضّ سركون بولس على الفرائس كنسر، وساراماغو تائه في الجليل بحثاً عن يسوع. محمود درويش يداعب حيفا، أنثاه المفضلة، وتشيخوف يقفل باب العنبر رقم 6 على مجانينه الرائعين. كلٌّ له قصته، وأنا الصغير بين هؤلاء، آكل أصابعي إلى جانب النافذة. ألوّح لصديق في أوروبا بكسرة خبز تقاسمت يدينا تمزيقها، ولآخر في القبر بالخمر كي يستمتع بجحيمه. ألوّح لفتاةٍ تنوي قتلي يومياً.