الزكام في نظر بعضهم من أبسط الأمراض، لكن مراجعة لبعض أنواع فيروساته تلفت إلى مخاطرها الكبيرة، فما زال «إنفلونزا الطيور» يقض المضاجع ويشغل الأطباء والعلماء. أخيراً تمكن باحثون أميركيون من تحديد أجسام مضادة، ما يزيد الآمال بإمكان التوصل إلى علاجات لمختلف فيروسات الزكام
غادة نجار
يؤكّد فريق من الباحثين الأميركيين أنه تمكّن من تحديد مجموعة من الأجسام المضادة الـ anticorps التي تستطيع أن تتفاعل وتستقرّ على عدد من مولّدات المضاد أي الـ antigens الموجودة على سطح خلية عدد من أنواع فيروسات الزكام، ومن ضمنها الـ H5N1 الذي يسبب أنفلوانزا الطيور. هذا الكشف يفتح الباب على مصراعيه أمام إمكان التوصّل إلى علاجات، وربّما إلى لقاح واسع الفاعلية ضد الزكام على أنواعه.
إن الزكام الذي ينظر البعض إليه باعتباره أبسط الأوبئة التي قد تصيب الإنسان، مرض قد تسبّب بموت ملايين الأشخاص عام 1918. هذا الأمر لا يعتبره العلماء من الماضي، بل إن معظمهم يذهب إلى القول إن تكراره حتمي وإن البشرية سوف تواجه في المستقبل أحد أنواع الزكام الذي سيقتل الملايين من جديد. لماذا التخوّف من الفيروس القديم؟
إن معرفة الأنواع المختلفة لفيروس الزكام، التي تتمّيز باحتوائها على نوعين من البروتينات الإماغلوتينين «H» والنورامينيداز «N» قد تساعد على الإجابة عن هذا السؤال. إن وجود هذين البروتينين اللذين يصنّفان من فئة مولّدات المضاد يؤدي إلى إنتاج الأجسام المضادة داخل الجسم المصاب، لأن نظام المناعة البشري يقرأ حضورهما ويباشر عمله في إنتاج المضادات الدفاعية. هذا الأمر يسمح بدوره بإنتاج اللقاحات المعتمدة من أجل تقوية المناعة الموسمية ضد فيروس الزكام. لكن هذه اللقاحات لا تستطيع حمايتنا من جميع أنواع فيروس الزكام المتزايدة. إن اللقاحات المتوافرة اليوم يجب أن تجدد نفسها في كل عام، بسبب وجود عدد كبير من الاحتمالات المرتبطة بنوعية فيروس الزكام الذي قد ينتشر في كل عام. حتى يومنا هذا، هناك 16 نوعاً من الإماغلوتينين و9 أنواع من النورامينيداز، الأمر الذي يجعل الاحتمالات كثيرة جدّاً.



جيانوا سوي وفريقه من جامعة هارفرد للطبّ في بوسطن تمكّنوا من عزل مجموعة من الأجسام المضادة، المستخرجة من أمصال مأخوذة على مراحل مختلفة من مجموعة من المصابين بالزكام. وقد تمكّن الفريق من تحديد قدرة هذه الأجسام المضادة على مهاجمة أنواع مختلفة من الفيروسات، أي أنها تستطيع العثور على مولّد مضاد محدّد موجود لدى أنواع عدّة من فيروسات الزكام ومهاجمته. تقول الدراسة إن عشرة مضادات أجسام من المجموعة التي عُزلت تستطيع أن تحارب الأنواع الأربعة الأساسية لفيروس أنفلوانزا الطيور. وثلاثة منها تستطيع محاربة أنواع أخرى من فيروسات الزكام. لكن النتيجة الأكثر إثارة لآمال العلماء، هي اكتشافهم جسماً مضاداً يستطيع أن يستقرّ على منطقة من الإيماغلوتينين كانت تُعتبر حتى اليوم غير قابلة لتوليد المضادات. إن منطقة من هذا النوع يستخدمها الفيروس من أجل اختراق غشاء الخلية السليمة والتماهي معها، ومن ثمّ التكاثر عبرها. وبعد حقن مجموعة من الفئران المخبرية بهذا الجسم المضاد بالتحديد، تبيّن أنه قادر على معالجة جميع أنواع الزكام التي تسببها فيروسات الـ N1، من ضمنها الزكام الإسباني H1N1 الذي حصد أرواح ملايين الضحايا بعد الحرب العالمية الأولى، وفيروس أنفلوانزا الطيور H5N1.
إن هذه النتائج واعدة جدّاً كما يؤكّد البروفيسور أنطوني فاسي مدير المركز الأميركي لأمراض الحساسية. لقد توقع العلماء منذ عام 2008 وجود جسم مضاد يتمتّع بتأثير واسع النطاق، لكن الصعوبة الكبرى كانت تكمن في القدرة على عزله من أجل دراسة تأثيره على مختلف أنواع فيروسات الزكام. وتعتبر البروفيسورة لينا برونو، مديرة المركز الوطني لمتابعة حالات الزكام في المنطقة الجنوبية في فرنسا، أن هذا الجسم المضاد قد فتح الباب واسعاً أمام أبحاث جديدة، لا سيّما أن قدرته على منع الفيروس من الدخول إلى الخلية السليمة لا يتعارض مع عمل جهاز المناعة الطبيعي لدى المصاب، الذي يستمرّ في القيام بدوره الدفاعي رغم وجود الجسم المضاد المذكور. لكن الباحثين في هذا المجال يفضّلون توخّي الحذر قبل البدء باستخدام هذا الجسم المضاد دواءً أو حتى لقاحاً على البشر.
إذاً ستستمرّ الدراسات والتجارب التي تُجرى على مخلوقات مختلفة قريبة في ردود فعلها البيولوجية من الإنسان، من أجل مراقبة جميع احتمالات تأثيرات هذا الجسم المضاد. ويرجّح الكثير من المعنيين أن البدء في استخدام هذا الجسم المضاد لقاحاً أو دواءً لن يحصل قبل بضع سنوات. هذا طبعاً إذا استطاع العلماء ضمان سلامة استخدامه، وإذا تمكّنوا من تنمية خصائص الحماية لديه إذ إن تأثيره في جميع التجارب التي أجريت حتى اليوم كان علاجياً لا وقائياً، الأمر الذي يرجّح أن تحويله إلى دواء علاجي سوف يكون أسهل من استخدامه لقاحاً وقائياً، على الأقل وفقاً للمعطيات المتوافرة لدى المعنيين حتى اليوم.