توصف بـ«بلد» التناقضات، أو بـ«بلد» التنوع والعيش المشترك. كلا.. ليس الحديث عن لبنان، بل عن «بلد» داخل البلد اسمه برج حمود: منطقة مهما اختلفت توصيفاتها، تظلّ تحسب لها ميزة أساسية، وهي قدرة رقعتها الجغرافية الضيقة على استيعاب سكان من طوائف ومناطق وجنسيات متعددة، وعلى تنشيط دورة اقتصادية وصناعية في بيئة تتواءم فيها التقاليد القديمة مع الحداثة
برج حمود ــ رندلى جبور
تتميّز برج حمود، ضاحية بيروت الشرقية، والبلدة المتنية الواسعة المساحة والكثيفة السكان، بتنوع يرى فيه البعض تناقضاً. فالجولة في شوارعها تكشف صوراً قد لا تجتمع في ألبوم واحد في مكان آخر. نقل أسماء الشوارع إلى أرمينيا: «أرمينيا وأراكس ومرعش وأغابيوس وكيليكيا». ولكن في «أرمينيا اللبنانية» جنسيات وطوائف ومستويات اجتماعية واقتصادية تجتمع كلها لتجعل من برج حمود بلدة الحركة التي لا تهدأ، ليشبّهها البعض بالسوق الشعبية. فالأرمن مشهورون بالحرف، كصياغة الذهب والألماس وصناعة الثياب والأحذية والجزادين والجلديات، كما تشتهر المنطقة التي يقطنونها بأسواقها المتخصصة كسوق مرعش مثلاً لتصنيع المأكولات التراثية، وسوق أراكس لبيع الملابس.
يكاد لا يخلو الطابق السفلي لمبنى سكني من مشغل صغير، أو من معامل تشتهر بإنتاج بضاعة رخيصة في متناول مختلف الفئات الاجتماعية. واللافت، كما يشير أحد الباعة، أن «أكبر نسبة من المستهلكين هي تلك الوافدة دورياً من خارج المتن، وخصوصاً من صور وطرابلس»، رابطاً وفودها بـ«تقديرها لخبرة بائع برج حمود الطويلة في الإنتاج والبيع، وحسن معاملته الزبائن، بالإضافة إلى التنوع في الأسعار، والتطوير الذي أضافه الأبناء على صناعات ورثوا ممارستها عن آبائهم، من خلال مواكبة الحداثة على الإنترنت».
تعتبر برج حمود بلدة لناحية الاكتفاء الذاتي الذي تحققه دورتها الاقتصادية ولجهة مساحتها الجغرافية وكثافة سكانها، حيث يصل عدد الناخبين فيها إلى 39 ألفاً يقترع حوالى 13 ألفاً منهم فقط. إلا أنها، من ناحية أخرى، تعتبر قرية بسبب الجو الاجتماعي والعادات والتقاليد المحافظة التي تسود فيها. «فالغسيل منشور على البلاكين، وباب الجار على الباب، وأحاديث عبر النوافذ وصبحيات»، كما يقول أحد السكان. أما الأعياد، فلها طابعها الخاص: في ليلة الميلاد، أي ليل 6 كانون الثاني وفق روزنامة الأعياد الأرمنية، يجول أهالي برج حمود في الشوارع، يتلون ترانيم الميلاد ترافقهم فرق موسيقية. أما ثاني أيام العيد، فلا بد من زيارة المقابر ومن توزيع الجمعيات الناشطة في برج حمود، مثل «هاماز كايين» و«مار يوسف»، للهدايا. أما في عيد السيدة، فيزورون يسوع الملك كما يخبرك السكان متندرين، ملمّحين إلى عادة الأرمن في الخلط بين المذكر والمؤنث!
بدوره، لا يمر شهر رمضان دون الاحتفاء بطقوسه، إذ تنظم جمعية مار يوسف إفطاراً في الكنيسة. تدل هذه السلوكيات والتقاليد المتبعة على تعددية النسيج الاجتماعي والطائفي في برج حمود الذي يضم من المسيحيين سرياناً وأرمناً وأرثوذكساً وموارنة وأقلية كاثوليكية، ومن المسلمين شيعة وأقلية سنية ودرزية. وما يسري على البشر يسري على الحجر: فالمنطقة مملوءة بكنائس لكل المذاهب المذكورة، وبمسجدين. غنى عقائدي ينسحب على آخر ثقافي واجتماعي وتربوي، إذ تضم برج حمود ثلاث مدارس رسمية ومدرسة خاصة واحدة، ومدارس للأرمن والكثير من الجمعيات، بينما يحرص «البرجحموديون» على التذكير بالملعب البلدي الذي تجري فيه مباريات دولية في كرة القدم.
أما الأسواق الداخلية، فخلية نحل دائمة تتميّز بالتفاعل الاجتماعي، من بينها «سوق السمك» على شاطئ الصيادين حيث تكثر حركة البيع الصباحية وحيث يمكن مشاهدة الصيادين يخيطون شباكهم ويبتعدون في عمق البحر.
لكن، خلف واجهة المنطقة الجميلة، ينقل أهالي برج حمود كواليس سلبية: منها «جبل الزبالة» الذي عولج فانخفضت نسبة الروائح المتسربة منه، و«مسلخ بيروت» القريب جداً، الذي يبث روائحه الكريهة نحو منطقتهم.
إلى اللائحة السوداء، يضاف غياب التنظيم المديني، واقتطاع الشاطئ لإنشاء محطة تكرير للمياه المبتذلة يشكّك الكثيرون في فعاليتها، وفقر مدقع في منطقة النبعة التابعة لبرج حمود سببه «التهجير وعدم عودة الأهالي الأصليين إلى أملاك استملكها سوريون وأكراد وجاليات أخرى غير لبنانية»، كما يقول أحد السكان، بالإضافة إلى انتشار بيوت التنك والمنازل المتواضعة المتلاصقة في ما يسمى «كامبات».
ولهذا قصة أخرى: فبرج حمود كانت بساتين ومساحات تحتلها بيوت من التنك تؤوي «ولاد العرب» أو اللبنانيين النازحين من قراهم الريفية طلباً للعمل من جهة، والأرمن الهاربين من المجازر إلى مخيم واحد كبير المساحة سكنوا فيه في البداية لم يلبث أن تحوّل إلى مخيمات عدة مقسمة من جهة أخرى.
قديماً، هدّمت إحدى «الكامبات» لتعلو بنايات هابويان بدلاً منها. أما منذ 4 أشهر، فقد هدمت بلدية برج حمود مخيماً آخر على أن تبني مكانه حوالى خمسة أبنية ضخمة وحديقة عامة وملعباً رياضياً، فيما ظلت 35 عائلة في الكامبات التي استملكت البلدية معظم أراضيها، دون أن يستفز أي من قراراتها السكان، لأنها أعطتهم تعويضات من جهة، ولأنها «أزالت الكثير من المخالفات التنظيمية في الشوارع وشجّرت وأنشات بنى تحتية وأشرفت على كل أعمال مجلس الإنماء والإعمار. ونظمت موضوعي المولدات والدش فمنعت المضاربات ووحدت التسعيرة»، كما يقول أحدهم، لافتاً إلى أنه، على المستوى السياسي «من يكتب اسمه على لوائح حزب الطاشناق يصل إلى البلدية».
فحزب الطاشناق يحظى بنحو ثلثي أصوات الناخبين في برج حمود، فيما يتوزع الثلث الباقي على الأحزاب الأرمنية الأخرى كالهنشاك والرامغافار والأحزاب اللبنانية الممثلة كلها تقريباً. وقد ولدت حديثاً «حركة الأرمن الأحرار» المنشقة عن الطاشناق بزعامة ناريك أبراهاميان «المقرب من الحريري»، كما يصفه.
وبينما تتردد كثيراً مقولة أن «الطاشناق ماسك القصة»، يؤكد كثيرون أن برج حمود أصبحت تحت إمرة الدولة تماماً و«أن الحزب كان ماسك القصة أيام الحرب فقط حين جند الشباب لحماية البلدة وحراستها».


أصل التسمية