هيثم حسينلا تزال تركيا مصرّة على النظر إلى نفسها بمنظار السلطنة العثمانيّة، وتسعى من خلال الزيارات المكّوكيّة لقادتها السياسيّين، إلى استرجاع ذاك الدور بزيّ معاصر، من خلال اللعب على أكثر من حبل، وابتزاز المتعادين في ما بينهم، وكلّ طرف من جهة معيّنة. فلا يخفى أنّها الحليف الاستراتيجيّ لإسرائيل في المنطقة، كما لا يخفى أنّها تزعم تمثيل الزعامة الإسلاميّة كذلك، وهي علمانيّة متقرّبة من الغرب بهذا الادّعاء، أي إنّها متعدّدة الأقنعة المتعدّية على غيرها من خلالها. حيث تشعر هذه الأيّام برضىً عام وعارم، من خلال إرضائها لشريحة كبيرة من شعبها المسلم بوقوفها إلى جانب إخوتهم في غزّة، ومن خلال التلاعب بمشاعر المسلمين عبر عقد وتزعّم قمّة الدول الإسلاميّة في إسطنبول. علاوةً على إرضائها من تحت الطاولة لشريكتها الدائمة إسرائيل، حيث لا تتجاوز المطالبة سوى الكلام أو بعض الوعيد، المعتذَر من أجله فيما بعد، ذلك أنّ ضرورات اللعبة تحتّم عليها ذلك.
هي من جهة ترعب أميركا، والغرب، بالتفاف الدول الإسلاميّة، ومن ضمنها إيران، حولها، ومن جهة أخرى تُطَمئِنهما إلى أنّ الدول الجالسة في حضنها هي تحت سيطرتها، قيد أمرها، ورهن إشارتها. وأنّها، إنْ تُلبَّ شروطها ومطالبها، فإنّها لن تبخل بعطائها، وهذا النهج المتعالي هو امتداد للنزعة القوميّة المتطرّفة التي رسّخها أتاتورك عبر شعار: «طوبى لمن يقول أنا تركيّ»، وهي لا تتورّع عن سلوك أيّ سبيل لتحقيق مآربها، وقد يكون ذلك متوافقاً مع القانون السياسيّ القائل إنّ المصالح فوق المبادئ، أو الغاية تبرّر الوسيلة. وهنا غايات تركيا عديدة، ووسائلها متشابكة، تسير على الحافات المسنّنة، تلعب بالبيضة والحجرة، متشاطرة أنّها ممتدّة بعراقتها وجذورها في الماضي. أي إنّ النوستالجيا الماضويّة تسيّرها، والمآرب المستقبليّة تقودها، وهذا ما يفهمه مَن حولها. ولكن يبدو أن لا خيار لهم إلّا الانسياق خلف سفسطتها، أو الانغواء ببهرجها.
رغم يقيني أنّه لن يكون من التعقّل بشيء أن نستشهد بالشعر في قضايا سياسيّة مصيريّة لا تمتّ إلى المشاعر بصلة، فإنني أستذكر بيتَ شعر يقول: غير تقيٍّ يأمر الناس بالتقى / طبيب يداوي الناس وهو عليل. هذه حال تركيا، تزعم وتدّعي الأمر بالمعروف وتسعى إلى حلّ مشاكل الآخرين، متزعّمة المؤتمرات الداعية إلى عقد حقوق الإنسان، أو إيقاف العدوان، لكنّها لا تلتفت إلى شعبها، ولا تحلّ مشاكلها العالقة المزمنة. بل تصرّ على اتّباع سياسة الإنكار تجاه شعبها وتجاه القضيّة الكرديّة تحديداً.
يبدو أنّ قسماً كبيراً من العرب، يعميهم ماضي تركيا، أو كأنّهم يلوذون إلى أحضانها على كرهٍ منهم، في ظلّ انعدام السند، أو لربّما هو نوع جديد من الهروب إلى الأمام، مرتدين قناع العمل من أجل غزّة، ولو بعقد مؤتمر...! بالطبع سيخرجون منه مندّدين مستنكرين محتجّين بشدّة. داعين إلى مقاطعة البضائع الأميركيّة.
داعين الأمم المتّحدة إلى أن تقوم بدورها. ثمّ عائدين منتشين بنصرهم المحقّق بمؤازرة من الراعي التركيّ المنتشي بدوره باسترجاع زعامته المنهوبة.
إنّ ما يجري هو لعبٌ مكشوف وتلاعب بالعقول والمشاعر لا غير. هل يدرك ذلك المنساقون؟ هل يملكون جرّاء إفلاسهم غير ذلك؟