روي خوليالمدينة غارقة في النوم. الليل يحتضن كل شيء، والطرقات تحتضن أحلاماً قتيلة اغتالها المستحيل. والقمر شاحب حزين، تآمرت عليه السحب فغدا كئيباً. الريح تحكي للشجر حكاية عتيقة من مجاهل العصور والتاريخ، وعلى أغصان الشجر، شحرور ساكت حزين. أسكته الليل ووحشة الظلام، وعلى الأرصفة آثار لخطوات بشرية. خطوات ظالمة وأخرى مظلومة. وخطوات أخرى أتعبها التعب.
الليل أنشودة المصابيح، وجنّيات الليل يتراكضن في أعماق الظلام والضباب. ينتحرن بين ثنايا الغيب والمجهول، ولا صوت في سكون الليل سوى أنين الريح وحفيف الشجر وعواء كلابٍ دفع بها الجوع إلى التسكّع في دهاليز الليل.
خطوات متعبة على الطريق. ﺇنه عائد إلى المدينة. الطريق يبتسم له، والرياح تداعب معطفه، والليل يبتلعه. ﺇلى ﺃين تتجه أيها الغريب؟ وأي أمرٍ قذف بك في عتمات الظلام ووحشة الدروب؟ لقد قتلت يا غريب هذا السكون وكأنك طعنت خنجراً في خاصرة الصمت. اتركني يا لائمي وحزني. اتركني وعذابي ودعِ السكينة تمشي معي إلى حيث ﺃبغي. دع الخشوع يرافقني إلى حيث تلك المقبرة التي ارتمت على كتف المدينة وضباب الغيب يلفّها وأشباح الليل تحرسها. اتركوا خطواتي تحكي للطريق حكاية قتيل تمشي به عتمة الليل، بينما ترقد في ثنايا القبور صبية لا يزال رحيق الحياة يحوم حول مرقدها. أنا الميت وهذه الدنيا كفني وقبري. هي الحياة حيث الأبدية وخلودها، فدعوني أذهب حيث ترقد لعل الموت يعيد ما أخذته الحياة.
ومشى الغريب يخترق الطرقات بصمت مخيف وخطوات متثاقلة كأنه شيخ تاه عنه الموت فخرج يبحث عنه. ويقترب الغريب من المقبرة حيث اللانهاية تسكن هذا المكان، وحيث الأحلام الذبيحة والابتسامة القتيلة والوردة المسحوقة.
كل أحلام البشرية ترقد بين ثراك أيتها الأرض... وتزحف أخيلة الليل ورؤى الظلام وأوهام الطريق نحو الغريب وتسأله: ما بك يا إنسان؟ فيقول وهو لا يزال يقترب من المقبرة: ﺇن الذي بي كالذي في أعماق الأرض، تحت هذا الثرى يرقد التاريخ وأبطاله. والذي في أعماقي تاريخ وذكرى وسرادق عزاء وجنازة ومشيّعون. في أعماقي حكاية أحببتها. أنشدت لها أحلى أناشيد البشرية. بنينا الأحلام معاً، ولكن بني البشر اغتالوا أحلامنا، فتعبت الصبية فأكلها المرض ثم ابتلعها القبر.
ودخل الغريب المقبرة، فرأى حفار القبور يستعد للنوم، فقال الغريب: أيها الحفار، لا فرق بين رقدتك هذه ورقدة هؤلاء تحت الثرى سوى أنك تتنفس الحياة وهم يتنسّمون الموت. أنت تملّ الحياة وهم لا يملّون الموت. أنت تدفن البشرية بساعديك، لذلك تلامس الحقيقة الضائعة في حياتنا وتراها، ونحن جثث بين ذراعيك وذراعي القبر.
قل لي أيها الحفار: أين قبر الصبية التي أسكنتها اللحد؟ تلك الفتاة التي تآمر عليها أبوها وأمها وعشيرتها فحملوها إلى عريس لا تريده وزفّوها إلى جاهلية البشرية وكهوفها؟ قل لي أيها الرجل، أين مرقد تلك الفتاة التي أسقطها المرض والتهمها في غمضة عين؟ ما أقوى ساعديك أيها الرجل. لقد طمرت ملاكاً دون أن تدري. وذهل الحفار وهو يسمع هذه الكلمات ولم يملك سوى أن يشير إلى حيث ترقد الصبية. فمشى الغريب كموكب جنائزي يعبر القبر تلو القبر وهو يقول:
أيها الراقدون، سامحوا خطاياي التي أزعجتكم في مراقدكم. سامحوا قيساً الذي ذبحه الهوى من الوريد ﺇلى الوريد، فجاء هذه الليلة يبحث عن ليلاه التي سكنت هذه الديار. أسكنتها الفواجع أرضكم، فخلف كل باب قبر، حكاية دامعة مفجعة... وخلف كل فجيعة غابة من الألم. ويقترب الفتى من قبرها وأقدامه تكاد لا تحمله. الليل يبكي، والريح تبكي... وأحجار القبر تبكي. واقترب المسكين من اللحد وأخذ يقول: تركتك يا صبية لحماً ودماً وأعود اليوم لأجدك تراباً وسراباً. أين رحل ذاك الصبا؟ أين غاب ذاك الجمال؟ وأين تلك الابتسامة التي ملكت بها الكون؟ وأين تلك العيون التي كانت مخدعاً للشمس؟ أحقاً كل هذا الجمال يتزاحم عليه الدّود الآن في ظلمة هذا القبر؟ أحقاً عيناك الجميلتان أصبحتا مغارتين يختال فيهما الظلمة والفراغ؟ ووجهك الجميل غدا جمجمة مرعبة لا تحوي سوى الخوف؟ أحقاً أيتها الصبية أصبحت كومة عظام يتقاسمها الدود والظلام خلف أبواب هذا القبر؟ ما أقواك أيها المرض. ما أظلمكم أيها البشر، وما أقوى ساعديك أيها الحفار... لقد طمرت قلبي معها.
وسقط الغريب فوق القبر. ولم تشرق عليه الشمس إلا وهو جثة هامدة لا حياة فيها.