نسيم الخوري *لن يقوى الحبر ومشتقاته النضالية، بعد مذبحة غزّة، على الخروج من الموقد الفلسطيني الذي تتفرّع منه مجمل الحرائق والتحدّيات والملفّات العربية المفتوحة قتالاً أو تسويات، بما يخلق تصالحاً هائلاً بين الماضي والحاضر، وخصوصاً أن الأغطية قد انكشفت عن العديد من الأنظمة العربية التي تجاوز وضعها كلّ حدود. فتلك الأنظمة صارت تحرق أصابعها مرّتين: مرّة تجاه شعوبها التي ساهمت في رفع هذه الأغطية على إيقاعات الدم الغزّاوي، ومرّة ثانية تجاه ما قدّمته تلك الأصابع من تعهدات وأوراق ومحاولات إلى العالم المستغرق في إسرائيل. وهكذا باتت الشعوب ترفض أنظمتها على ما يتاح لها من حقوقٍ في التعبير والنضال، في الوقت الذي تستغرق فيه تلك الشعوب في رفض الغرب وكرهه مع الحقد على إسرائيل، الأمر الذي سيضاعف من حجم الملف الذي يشغل طاولة البيت الأبيض لباراك أوباما بهدف ترميم صورة أميركا في العالم التي أورثها بوش. ففي الوقت الذي تنتظر فيه الشعوب جهود جورج ميتشل، تسهر عواصم العرب لفتح كل المعابر وخصوصاً معبر رفح ورفع الحصار، وهذه كلها تفاصيل تجعلنا نتذكّر فنفرح ونتجنب الانحراف في الوجهة لقضايا العرب الصحيحة، وكأننا في عام 1947.
ففي 16 أيلول 1947، اتفق أعضاء «لجنة تقصّي الحقيقة» في موضوع فلسطين على منحها الاستقلال، لكنهم اختلفوا على طبيعة هذا الاستقلال وحدوده، فبانت فكرتان: الأولى تقوم على تقسيمها إلى دولتين عربية ويهودية، يربطهما اتحاد اقتصادي توضع القدس وبيت لحم وفق مندرجاته تحت الوصاية الدولية وإدارة الأمم المتحدة، وتكون فلسطين بشؤونها وشجونها تحت إشراف بريطانيا لعامين فقط، يسمح خلالهما بدخول 150 ألف مهاجر يهودي إلى أراضي فلسطين، والثانية كانت رافضةً بالمطلق لهذا التقسيم. أتذكرون من أين انطلقت شرارة الصوت الأول الرافض لهذا المخطط الرهيب؟
من بلدة صوفر في لبنان المصيف المفضّل لدى أهلنا من عرب الخليج صعوداً نحو دمشق، حيث عقدت اللجنة السداسية التابعة لجامعة الدول العربية اجتماعها الطارئ بين 16 و19 أيلول الذي صدر عنه بيان مفصّل في «الهدر الواضح لحقوق عرب فلسطين في الاستقلال، والخرق الصارخ للوعود الإيجابية التي قطعت للعرب، والتجاوز الفاضح للمبادئ التي تقوم عليها منظمة الأمم المتحدة، بما يفرض على البلاد العربية مجتمعةً مقاومة تنفيذ هذه المقترحات عبر التماس جميع الوسائل الفعالة التي تكفل تحقيق استقلال فلسطين كدولة عربية». وفي 22 أيلول كانت سوريا بلسان مندوبها فارس الخوري يعتلي منبر المنظمة الدولية رابطاً بين السلام العالمي والقضية العربية الأولى، ومحذّراً من وقوع حرب عالمية ثالثة، قد تتأجل لكنها آتية، وقد تقضي على الحضارة لأنها ستكون حرباً ذريّة مدمرة، معتبراً أن مسألة فلسطين لا تقاس بمدى خطورتها لأن فلسطين قسم جوهري من وجدان العرب وإيمانهم. وانتقد يومذاك الإنكار الدولي على عرب فلسطين حق الاستقلال بحجة أنهم لم يشكلوا في الماضي دولةً مستقلة، فقال إنّ فلسطين كانت لثلاثة عشر قرناً مضت قسماً من الإمبراطورية العربية ثم الإمبراطورية العثمانية، ولا يجوز إنكار حق استقلالها لأنها فصلت عن دولةٍ كانت أساساً مستقلة. وانتقد الدعاية والإرهاب الصهيوني اللذين يقومان على أموال وأسلحة أميركية ترسل لمساعدة أقلية متطفلة، وتعمل على دق رأس جسر معاد في قلب الوطن العربي.
وقد هاجم مندوب لبنان آنذاك كميل شمعون مطالب اليهود التاريخية في فلسطين، معتبراً أن لا علاقة لهم بها منذ 20 قرناً، ويشاركهم صلاتهم العاطفية بها المسلمون والمسيحيون، مع أن اليهود لم يشكلوا دولتهم قديماً، والحضارة التي ادّعوا بأنها حضارتهم أخذوها عن جيرانهم الكنعانيين والفلسطينيين والمصريين والبابليين.
والمعروف أن مشروع تقسيم فلسطين قد عرض على الجمعية العمومية في 26 تشرين الثاني 1947 بهدف إقراره أو رفضه، وبعد ثلاثة أيام أقرّ التقسيم بأكثرية ثلاثة وعشرين صوتاً مقابل ثلاث عشرة دولة عارضت المشروع واستنكفت عشر دول وما غابت سوى دولة واحدة هي سيام.
والمعروف أيضاً أن فلسطين قد انقسمت عبر هذا التاريخ الطويل بين أهل المال والثروات وأهل الجوع والحرمان أي بين الفلس والطين، وخصوصاً على المستوى العربي، حيث تغيّر العرب والعالم كله، وعلى المستويات كلّها، ولكن اليهود وحدهم لم يتغيروا.
حلت الذكرى الحادية والستون لقرار تقسيم فلسطين الذي احتفلت به الأمم المتحدة باسم «اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني»، ملفوفة بجثث الشهداء من غزّة، ليكتشف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أولاً أن السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية هو إقرار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، مطالباً إسرائيل بإنهاء حصار غزة والمبادرة إلى فتح جميع المعابر.
وجاء الجواب الإسرائيلي إمعاناً بعدوان على غزة، وتحويل أسرى «حماس» والجهاد الإسلامي إلى دروع بشرية لحماية المستعمرات من صواريخ المقاومة عن طريق إنشاء سجن خاص لهؤلاء الأسرى في مناطق سقوط الصواريخ، كذلك تقوم بحملة تطهير عرقي في القدس. ألا يُراد من تجويع غزة البارحة وعزلها وحصارها وتدميرها إرجاعها إلى مصر، وتطبيق نظام الكونفدرالية بين الضفة الغربية والأردن ليصبح الأردن هو الوطن البديل؟
«العرب لا يمكن أن يخدعوا إلى هذه الدرجة»، وعليهم، قال فارس الخوري منذ ستين عاماً، أن «يكونوا على حذر، وأن يفتحوا عيونهم وآذانهم وأن يكونوا مستعدين، وذلك ليس لسنة ولا لسنتين ولا لعشر سنوات، بل لقرونٍ طويلة إذا اقتضى الأمر حتى يتجنبوا الخطر الذي تجابههم به الأمم المتحدة، وسوف لن يطمئنوا ولن يخضعوا لهذه الحالة كما أنهم سوف لن يعترفوا بها».
لم يتغير الإسرائيليون في سياساتهم، ويتغير الفلسطينيون في مقاومتهم بالطبع إذ ما نفع المال والدبلوماسية والأجيال تتعاقب في بيوت الطين، وعلك التاريخ الفلسطيني كمن يمضغ المياه. إننا على مشارف عودة فلسطين إلى فلسطين.
* أستاذ الإعلام السياسي في الجامعة اللبنانية