أعمال الترميم وتأهيل قرى الجنوب في تزايد مستمرّ منذ حرب تموز 2006. لكن، ما يجري في النميرية يتخطّى كل معايير عمليات التأهيل. فقد بات لون القرية واحداً وأشكال بيوتها تقتل الروح الفردية
جوان فرشخ بجالي
كانت قرية النميرية (قضاء النبطية) تشبه زميلاتها من قرى الجنوب قبل أن تبدأ عملية الترميم والتأهيل فيها. فها هي اليوم قد أُلبست حلّة من المفترض أن تكون تراثية، لكنّها لم تعرفها في تاريخها سابقاً، فقد أصبح للقرية بوابة عملاقة، وأبراج مستوحاة من المعالم الصليبية، وطُليت بيوتها بمادة صفراء اللون غريبة كل الغرابة عن تاريخ العمارة في لبنان. إضافةً إلى ذلك كله، فقد زيّنت جدرانها باللوحات «الفنية»: منجل هناك، فلاح هنا، عجلة أوروبية الشكل هناك، محدلة، نساء والجاروش... وبالطبع مقاوم يحمل بندقية! ما جعل تأهيل القرية يشبه دعايات الأنظمة التوتاليتارية التي تفرض على سكانها مبدأً واحداً تكرسّه بالشكل الهندسي الأوحد وبالجداريات الضخمة.
الفكرة كانت تجميل النميرية. النتيجة أتت توحيد شكلها وقتل الهويات الفردية فيها. هنا، تجدر الإشارة إلى أن قانون التنظيم المدني في لبنان لا يفرض على أي كان، أو أي منطقة، شكلاً هندسياً واحداً، من مبدأ عدم قتل «الإبداع الهندسي»، وترك حرية الاختيار للأهالي. لكن، في النميرية انقلبت الآية وأصبحت أموال أصحاب المشاريع تقرّر شكل القرية. «الأموال أتت من منظمة «إنماء» بشخص السيدة صوفيا كريدية، التي زارت القرية بعد انتهاء حرب تموز 2006 وأعجبت بها، فقررت تقديم هبة لترميم القرية وتأهيلها»، يقول التشكيلي وسام إبراهيم، الذي عُهد إليه مشروع التأهيل.



يخبر إبراهيم أن كريدية ورئيس المجلس البلدي أعجبا بتزيينه غرفة جلوس نفّذها مستوحياً التاريخ. فقررا العمل معه وبدأت الورشة. النموذج كان سمانة القرية. فأضيف حرف مزين بالقرميد الأحمر إلى سطحها، وطُليت جدرانها باللون الأبيض الذي يشبه، إلى حدٍّ كبير، لون الصخر الذي بنيت منه البيوت القديمة. لكن، لم يعمل بهذا الطريقة «لأن أعضاء المجلس البلدي يريدون طلي الجدران بالألوان»، يقول إبراهيم. «لذا قررت حينها مزج الرمل بالترابة البيضاء وطلي الجدران وإنجاز بعض الرسوم عليها. لكن، البلدية طلبت أن تكون الرسوم ملوّنة، فاستعملت المادة الزيتية على الجدران لإنجاز اللوحات التصويرية المستوحاة من التاريخ والتراث، والتي تهدف إلى إعادة إحياء الماضي وتذكير سكان القرية به».
ويشرح إبراهيم: «في البداية كانت الفكرة استعمال الصخر الطبيعي، إلّا أن الكلفة عالية جداً (أكثر من مليون ونصف مليون دولار)، فاخترنا خلطة مصنّعة من مواد طبيعية توحّد لون القرية. فأتى المزيج من رمل، أكريليك، بودرة الرخام والترابة البيضاء، وهذه المادة الصلبة: أبدية».
هنا، تبدأ المشاكل من حيث مبدأ التأهيل. ففي الهندسة المعمارية المتخصّصة بالترميم لا تستعمل إلّا مواد يمكن الرجوع عنها، بما معناه أنه يمكن إزالتها إذا تبين أن المادة تضرّ بالحجر. لكن، خلطة النميرية «العجائبية» لا يمكن إزالتها عن الجدران!
تقول أستاذة جامعة متخصصة في الترميم إن أحد أهم مبادئ الهندسة هو خلق التناغم، لكن الخطورة تكمن في التوحيد، فهو يقتل «حرية التعبير والفردية. والرسم على جدران القرية حوّل الأماكن الخاصة إلى عامة. حيث أصبحت الأبنية لوحة واسعة يرسمها شخص واحد. وتحولت القرية من مكان يجمع أشخاصاً يبرزون الفروق في ما بينهم في أشكال بيوتهم وألوانها وهندستها إلى محلة لا تفترق فيها البيوت عن بعضها بعضاً إلا بحسب رغبة الفنان. رؤية فردية تفرض على جماعة».
من جهته، يؤكد مجلس البلدية أنه لا يفرض على أحد تزيين بيته! فالعاملون في المشروع يسألون أصحاب البيت وإذا كان الجواب نعم تبدأ المشاورات بين الفنان وأصحاب البيت على الشكل النهائي.
أكثر ما يلفت في النميرية «الجديدة» هو بوابتها، التي يقول إبراهيم، إنه اقتبس فكرتها من تاريخ الحصون التي كانت تقفل أبوابها عند المغيب. ويكشف أنه قرر «تقليد» الشكل وإعطاء النميرية بوابة كبيرة مشرّعة. علماً أن البوابة ليست من تقاليد القرى في لبنان عامة، والجنوب خاصة.
وعن تزيين البيوت بأشكال هندسية يقول إبراهيم: «لقد انتقينا بعضاً من عوامل الهندسة اللبنانية التقليدية و«قلّدناها» في المباني الحديثة. فأضفنا مثلاً فوق كل باب عتبة، وفوق الشبابيك قناطر أو أشكالاً هندسية». ولا بد هنا من لفت الانتباه إلى أن غالبية الأشكال المنتقاة لا تمتّ إلى تاريخ العمارة اللبنانية بصلة.
ما جرى في النميرية لا يتوقف على الشكل الذي صُبغت به القرية، بل يتجاوزه ليدخل في إشكاليات المشروع. فتلك البيوت الصفراء أضحت بلا هوية ولا تاريخ وتشبه الأماكن المزيفة التي تدّعي القدم والتاريخ. وخطورة ما جرى تمتد من النميرية إلى قرى الجنوب عامة. فلو قررت مجالس بلديات القرى الأخرى تكرار تجربة النميرية (على اعتبار أن العمل جميل ورخيص) لتحول الجنوب إلى لوحة عملاقة يرسمها فنان واحد فيوحّد شكل الجنوب ويقتل الخيارات الفردية.