يسهل الحكم بالفشل على قرار وزارة النقل والأشغال العامة الصادر في كانون الثاني الماضي، والقاضي بخفض تعرفة النقل في السيارات العمومية إلى 1500 ليرة. كذلك، تسهل ملاحظة فشل نقابة السائقين العموميّين في إقناع منتسبيها بعدالة هذه التعرفة. لكن ما يستدعي الاهتمام أكثر، هو «تواطؤ» غير معلن بين السائق والراكب ضد هذا القرار، علماً أنّ الأخير يعدّ مستفيداً من انخفاض التعرفةمحمد محسن
لم يكد سائقو السيارات العمومية يتنفسّون الصعداء، بعد انخفاض سعر صفيحة البنزين بنسبة 36% عن سعرها الأوّل في كانون الثاني الماضي، حتى فاجأتهم وزارة النقل بقرار خفض التعرفة إلى 1500 ليرة. حبسوا أنفاسهم، لكنّهم أعاروا الأذن الطرشاء لقرار الوزير غازي العريضي، واستمروا في توصيل الراكب مقابل 2000 ليرة يجري الاتفاق عليها قبل صعوده، وإلاّ فليبقَ ينتظر سائقاً، موقنين أنّه لن يأتي، يقبل بالتعرفة الجديدة.
يصعب إيجاد سائق سيارة أجرة يقبل الحديث عن التعرفة الجديدة، إلّا على مضض. فبالنسبة إلى السائقين الذين يجوبون بيروت وضواحيها «من قال إن الألفي ليرة بتوفّي معنا؟»، يسأل السائق محمد عسيلي، في معرض الإجابة عن السؤال البديهي: «لماذا لا تلتزمون التعرفة الجديدة؟». يستغرب السائق مجرّد طرح فكرة دفع 1500 ليرة، مقابل توصيلة من حي السلّم إلى الأونيسكو: «إنت أوّل راكب يلتزم تسعيرة الوزير»، يقول ضاحكاً وهو يزيد من سرعة سيارته. يدعو عسيلي إلى تذكّر تجربة تعرفة 1750 ليرة في تشرين الثاني الماضي، التي لم تلقَ صدىً في أوساط السائقين، كما يسأل عن «الذكي» الذي يقتنع بالتعرفة الجديدة. هكذا، ماتت التسعيرة الجديدة التي أقرّتها وزارة النقل، قبل أن تولد.
حسناً يفعل الراكب إذ يعطي ألفي ليرة لعبد الله هاشم دون المطالبة بالخمسمئة ليرة، وإلّا فسيجد نفسه أمام معادلة وضعها هاشم بنفسه: «الخمسمية قبل الألف وخمسمية، وإذا ما بدك تدفع نزال يا أستاذ». يسهب السائق الأربعيني في شرح أسباب رفض السائقين الالتزام بالتسعيرة الجديدة. ليست المسألة «نكايات سياسية ضد الوزير أو معه»، كما يقول هاشم، بل هي مسألة مواد غذائية وأقساط مدارس وضمان: «لم ينخفض «متليك» من أسعارها، حتى نخفض تسعيرتنا». لكن أليس انخفاض تسعيرة البنزين كافياً؟ يأتي النفي سريعاً ترافقه ضحكة ساخرة. يشير هاشم إلى أنّ سعر صفيحة البنزين لم يكد يهبط قليلاً، حتى عاد ليرتفع. يتوجّه بالسؤال إلى راكبة في المقعد الخلفي «مظبوط عم بحكي يا إختي أو لأ؟»، فتجيبه: «كل الحق معك يا حاج». هكذا إذن يعطي الركاب ضوءهم الأخضر للمضي بتقاضي ألفي ليرة بضمير مرتاح. لكن ما السبب الذي دفع الراكبة للتنازل عن حقٍّ منحها إياه قرار الوزارة؟ «وضع الناس تعبان وما بيتحمّل أكتر، مش منطقي قرار الوزير» تجيب مروى العلي قبل أن تنزل من السيارة. لكن بخلاف مروى، ثمّة من أعجبه قرار الوزير لكنّه يعجز عن تطبيقه. يجهّز عدنان الغول 1500 ليرة قبل صعوده إلى سيارة الأجرة، آملاً أن يجد سائقاً واحداً لا يطالبه بالخمسمئة الباقية، فيشير إلى أن البحث عن هذا السائق يشبه «البحث عن إبرةٍ في كومة قش». يعبّر عدنان عن كثيرين يرضخون لرغبة السائق «نحتاج إلى التاكسي، فلا فانات على طريقنا». يتقاطع الحديث عن تنفيذ رغبة السائقين مع ما يقوله أبو مهدي غزالي، فهو صاحب السيارة وهو سيدّها وهو من يفرض التسعيرة «وإذا الوزير بدّو يعاقبنا يشرّف لنشوف».
لا يرى أحمد دعجة أنّ أسعار المواد التموينية أو المحروقات، وحدها التي تمنع الالتزام بالتعرفة الجديدة. يشير السائق الغاضب بإصبعه إلى سيارة خصوصية تتوقف أمامه، ويسأل سائقها أحد الواقفين عن وجهة سيره. يتحسّر دعجة على راكب ٍكان واضحاً أنّه في عجلةٍ من أمره، ويسأل غاضباً «أليس هذا الراكب من حقي؟». سيارات «الخصوصي» كما يعرفّها دعجة هي السبب الأساسي. يتذمّر «شفت ليش مننزل منشتغل بيروت؟ سيارات الخصوصي متل النمل بالضاحية وما حدا بيوقفّن». لم تمض نصف ساعة على حديثه حتى جاءت الصدمة الثانية. يتكرّر مشهد السيارة الخصوصية ذاته في منطقة رأس النبع، لكن السائق يبقى مصرّاً «بالضاحية أكتر بكتير».
تبدأ مبررات عدم الأخذ بتعرفة الوزارة، بأسعار المواد الغذائية والمحروقات، ولا تنتهي بمخالفات سائقي السيارات الخصوصية، ولذلك، يربط بعض السائقين التزامهم بالقانون ببعض الشروط. هكذا، يطالب من اشتكى منهم من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بـ«تسعيرة بنزين خاصة للسائقين العموميين كما كان في السابق، مثلاً أربع تنكات بنزين مجاناً بالشهر». أمّا الجزء الآخر، فيبدي استعداداً وترحيباً بالتعرفة الجديدة «حين نلمس قمعاً للسيارات الخصوصية التي تأكل رزقنا».
بعضهم يغالي في الإيجابية من باب الثقة بعدم تجاوب الدولة مع شروطهم، فيبدي هؤلاء ممن تحدثت إليهم «الأخبار» استعدادهم لتسعير «النقلة» بألف ليرة بدلاً من ألف وخمسمئة، فيما لو استجابت الجهات الرسميّة لمقترحات الحلول التي يطرحونها. أمّا إذا حصل خلاف ذلك، فالأمور ستبقى على ما هي
عليه.
المعادلة إذن بهذا الوضوح، وهي تقف هذه المرّة بطريقة جليّة إلى جانب السائقين لأسباب عدّة، أوّلها، وهو الأهم، تجاهل المواطنين قرار الوزارة تعاطفاً مع السائقين أو حتى خضوعاً، أمّا السبب الثاني، فهو ما ينقله بعض السائقين عن «تساهل الوزير غازي العريضي إزاء المخالفات، وعن أن القرار كان شكلياً فقط»، فالوزير بحسب أحد السائقين «يعلم قبل غيره، أن قراراً كهذا يستحيل تطبيقه».