علاء اللامي*ماتت «المحاصصة الطائفية» سريريّاً حين بلغ الاحتراب الأهلي الطائفي ذروته خلال النصف الثاني من 2006 والنصف الأول من 2007، أي حين صارت مئات الجثث مقطوعة الرؤوس لعراقيين أبرياء تكتشف مع صباح كل يوم جديد في أغلب أحياء بغداد. وقبل بدء الحملة الانتخابية الأخيرة بأشهر عدة، انطلق عدد من أقطاب الحكم القائم وفي مقدمتهم رئيس الوزراء نوري المالكي، في حملة تصريحات تركّزت على التبرُّؤ من المحاصصة الطائفية وهجائها. بل إن طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية (عن حصّة العرب السنّة!) أعلن عن استعداده الشخصي للتخلي عن منصبه مقابل التخلي عن المحاصصة الطائفية. فنظام المحاصصة الطائفية العرقية الذي جاء به الاحتلال وصفّق له زاعمو تمثيل الطوائف والأعراق أصبح أضيق فأضيق، حتى بلغ الأمر درجة لا تطاق. وهذا ما جعل بعض أقطابه يتبرّأون منه ظاهراً، ولكنهم يحجمون عن المطالبة باستبداله بنظام آخر.
مات مبدأ المحاصصة الطائفية العرقية بعدما سحقته آليات اشتغال «خصوصيات الوطنية العراقية الاجتماعية»، أو بعبارة أخرى الحراك الطبيعي العميق للتركيبة المجتمعية المتنوعة للعراق. فالمجتمع العراقي يرفض بطبعه، وبشروط وجوده التاريخية، ظاهرتين سلبيتين، هما الطائفية والحكم البراني، بينما نظام الحكم الحالي محكوم بزواج هاتين الظاهرتين، أي الطائفية بوصفها مجموعة ميكانيزمات ومبادئ تقاسم الحكم، ونوع الحكم البراني المفروض بقوتي العسف الخارجي، والعسف الداخلي ممثَّلاً بالجيش الجديد المطعّم والمحاط بالميليشيات الطائفية والحزبية. لقد بلغت الظاهرة الطائفية ذروتها الدموية، مما أدى إلى سقوطها المدوّي. فقد انكشف للجميع هول ما جاءت به المحاصصة الطائفية والعرقية، فسقطت في أعين الملايين وعقولهم، وحينها لم يجد أغلب الساسة بُدّاً من أن ينفضوا أيديهم منها. ينبغي أن نتذكّر أنّ دخول الجماعات التكفيرية السنّية، وفي مقدّمتها جماعة «القاعدة» وحلفاؤها المحليّون، وممارسات فرق الموت التكفيرية الشيعية، قد زادت من سرعة وضراوة صعود دورة العنف والاحتراب الأهلي الأخيرة وسقوطها.
ذلك لا يعني أنّ الظاهرة الطائفية لن تنتج دورة عنف أهلي جديدة. فالأرضيّة التكوينيّة المجتمعيّة (انقسام المجتمع العراقي طائفيّاً إلى شيعة وسنّة وآخرين، وقوميّاً إلى عرب وكرد وآخرين) ما زالت قائمة، وربّما تكون قد شحنت بعوامل وبواعث جديدة من النمط الثأري، ومن النوع الذي لا يُرَجَّحُ زواله وتلاشيه سريعاً. وما زال نظام الحكم يأخذ بالدستور الاحتلالي الغريب عن المجتمع، والملفّق من خبراء أغلبهم أجانب. ثمّ إنّ الاحتلال ما زال قائماً، وهو الأس الأول والحامل والمحرّك للطائفية. كما أن الجماعات والتنظيمات التكفيرية السنية والشيعية ما زالت تتمتّع ببعض الدعم والنفوذ، رغم ما حلّ بها من انشقاقات وضربات عسكريّة، ورغم انحسار الدعم الشعبي لها في الحواضن الأصلية والجديدة. ولكي تغدو دورة عنف أخرى جديدة مستحيلة، لا بدّ من استشراف البرنامج الوطني العراقي البديل والقائم على ركيزتين: إنهاء الاحتلال الأجنبي تماماً، وترحيل آخر جنديّ من قوّاته دون قيد أو شرط، وبما يترتّب على ذلك من نقض للاتفاقيّة الأمنيّة الموقّعة مع إدارة بوش. والركيزة الثانية هي إلغاء المحاصصة الطائفية وتحريمها، وتفكيك العملية السياسية القائمة على أساسها وإعلان نهايتها رسمياً، والبدء بعملية سياسية مؤقّتة تؤدّي إلى تأسيس نظام حكم يحكمه دستور من طبيعة ديموقراطية علمانية اتحادية.
ومع ذلك ثمة ملاحظتان لا بد من أخذهما بالاعتبار عند تحليل الأرضية المفهومية والسياق السياسي الذي ظهرت فيه حالات التبرّؤ من المحاصصة الطائفية كطريقة في الحكم. فهذا التبرّؤ لم يكن عاماً وشاملاً. الزعامات الكردية ممثّلة بتحالف البرزاني والطالباني ما زالت ترى في هذا النظام والبناء الدستوري الذي يقوم عليه بغيتها ونموذجها الأمثل في الحكم، وهناك العديد من التصريحات العلنية للطالباني (الذي يحب البعض تصنيفه علمانياً، مع أن الرجل لا علاقة له بالأيديولوجيات)، أيّد فيها مراراً بقاء نظام المحاصصة. أما حليفه اللدود مسعود البرزاني، فقد هدد علناً بالانفصال عن العراق وإعلان استقلال إقليم الشمال العراقي الكردي (أو بالعبارة المتحذلقة المنسوبة إليه من جانب صحيفة واشنطن بوست «عبور جسر الاستقلال»)، إذا ما حاول بعض شركائه في الحكم مراجعة أو تعديل الدستور الاحتلالي الذي يقوم عليه وبموجبه نظام المحاصصة الطائفية. إن منطق البرزاني هذا يعني أن الدستور الاحتلالي أكثرُ قداسة حتى من الكتب السماوية المنزلة كالقرآن، الذي تجوز فيه ظاهرة الناسخ والمنسوخ! وهناك أيضاً مشكلة التصريحات المعدّة للاستهلاك التي ينبغي ألا يعتدّ بها المراقب كتلك التي أدلى بها طارق الهاشمي.
والملاحظة الثانية هي أنّ دعاة رفض المحاصصة الطائفية، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء نوري المالكي، لا يجيزون الدعوة إلى رفض ما يسمّونه بالعملية السياسية، بل هم لا يطيقون حتى مجرّد توجيه نقد جادّ إليها، متحجّجين بخطورة العودة إلى ما يسمونه المربع الأول. وهذا محض هذيان. والحقيقة هي أنهم يخافون الانتقال إلى مربع جديد أكثر تطوّراً وديموقراطية وإنسانية ممّا هم فيه الآن، أي دولة مستقلّة حقّاً. إنّهم يزعمون رفض المحاصصة الطائفية، ولكنهم يتشبّثون بأظافرهم وأسنانهم بالعملية السياسية. كيف تتّسق الدعوة إلى رفض مبادئ المحاصصة الطائفية والعرقية مع القبول بالعملية السياسية؟ وما حقيقة الفرق بين هذين الأقنومين؟
لا شك بأن عبارة «العملية السياسية» التي ترسخت مع الاحتلال، ملتبسة. فهي لو قارنّاها لغوياً وسياسياً مع مثيلاتها في الأدب السياسي المعاصر، فلن تعني نوعية نظام حكم دائم أو طويل الأمد، كأن نقول نظام حكم «اشتراكي» أو «ليبرالي» أو «إسلامي»... الخ، بل هي تعني حالة أو وضعاً سياسيّاً مؤقتاً. والعبارة بهذا المعنى قريبة من عبارات أخرى من قبيل «عملية السلام الشرق أوسطية» أو «خريطة الطريق» لحل خلاف بين دولتين أو أكثر. العملية السياسية لا وجود كيانياً لها بدون المحاصصة الطائفية.
إن الاتفاق سائد بين من شاركوا وخرجوا من الحكم، وبين مَن لا يزالون فيه، على تحريم نقد أو تفكيك الـ«عملية السياسية»، ومرد هذا الاتفاق الأوحد هو أنها عماد وجودهم ومبرر بقائهم، ولأنها الغلاف الحقوقي والقانوني الذي يتقاسمون بموجبه جميع المكاسب. وعلى هذا، سيكون مفتاح البرنامج الوطني الديموقراطي العلماني أنه يتجلى في التصدي لهذا الخطاب المتهافت وطرح البديل الواقعي والإنساني ممثلاً بنظام حكم ديموقراطي يقطع تماماً مع نظام حكم العملية السياسية الطائفية.
* كاتب عراقي