يأتي الصوت عبر الهاتف: «ما رأيك بأن ترافقيني غداً إلى صيدا؟ سأزور الأطفال هناك». لا يسمح جدول المواعيد بقبول الدعوة، لكن العرض لا يمرّ عابراً... لقد خلّفت سميرة خوري أثراً سيتعزّز بعد اللقاء وسنكتشف أنها اعتادت تركه أينما حلّت
مهى زراقط
قلّما طرح موضوع الدفاع عن المرأة من دون أن يُضرب المثل بـ«سي السيّد»، ومعاملته السيئة لها. إلا أنّ بطل ثلاثية الروائي المصري نجيب محفوظ ليس النموذج الوحيد للرجال. قليلون مثلاً من يأتون على ذكر «جعدة»، إحدى شخصيات «زقاق المدق»، والطريقة المهينة التي كانت تعامله بها زوجته حسنية الفرّانة لمجرد أنها هي من ينفق على المنزل.
سميرة خوري هي واحدة من تلك القلّة. تتذكر «سي السيّد» كما تتذكر «جعدة»، وتتذكر نساء رائدات في الدفاع عن المطالب المحقة للمرأة، كذلك تتذكر أخريات يمارسن سلوكاً متطرّفاً لا يخدم القضية، لتخلص بعد سنوات طويلة من العمل العام إلى القول إن معظم مشاكل القمع والعنف مرتبطة بأمرين: الوضع الاقتصادي والثقافة.
هذا الموقف النقدي من الحركة النسوية التي نشطت في ستينيات القرن الماضي، هو ما جعل خوري ترفض طويلاً الانضواء في الجمعيات والاتحادات النسوية التي نشأت آنذاك. تقول إن الحركة النسوية في ذلك الوقت «كانت متعصّبة بطريقة حقودة وهذا ما لم أكن أقبله». تتذكر عبارة كانت ترددها سيدة اسمها سميحة خليل، تعمل في جمعية إنعاش الأسرة في منطقة البيرة في فلسطين: «يا خالتي حلّوا عنهن للنساوين، بطلقوهن زواجهن». برأيها كانت الحركة النسوية «داعسة غلط»، فلم تتحمس للمشاركة رغم اعترافها بأن المرأة كانت فعلاً معنّفة ومظلومة.
لم تكن خوري تحتاج إلى تبرير عدم انتسابها إلى تلك الجمعيات، فقد كانت ناشطة فعلاً في العمل العام منذ كانت في السابعة عشرة من عمرها. لكن، ومع مرور السنوات والمآسي أيضاً، ولأنه «كلما طبّل أحدهم، كنت أزمّر له، كما كانت تقول لي أمي»، رضخت خوري قبل عشر سنوات لطلب السيدة أنيسة النجار وانتسبت إلى «اللجنة اللبنانية للسلام والحرية» التي تشكل الفرع اللبناني لأقدم منظمة نسائية في العالم تأسست عام 1915 في جنيف، وهي «العصبة النسوية الدولية للسلام والحرية».
خوري ترأس اليوم الفرع اللبناني للمنظمة، التي تنشد السلام «القائم على العدل»، كما تحرص على القول. وهي تشغل أيضاً منصب نائبة رئيس العصبة النسوية عالمياً، وهي عضو مؤسس لجمعية «تضامن المرأة العربية»، وكانت متطوعة في «بيت أطفال الصمود» و«النجدة الشعبية» وغيرها... رغم ذلك تكرّر القول إنها دخيلة على عالم المرأة، تصف عملها في العصبة بالسياسي: «اقتنعت من خلال تجربتي، ومع تتالي المآسي، بأن الكرسي الفارغ لا صوت له. لذلك أحاول من موقعي أن أوصل صوتي وقضيتي. يجب أن نذهب ونرفع الصوت شرط ألا يتنازل الواحد منا عن قناعاته». تقول خوري ذلك رغم أنها كانت ترفع صوتها منذ زمن. واحدة من المحطات التي تذكرها تعود إلى عام 1974. الفلسطينية التي ولدت في غزة كانت تعرض ذلك العام في اليونيسكو في باريس، بصفتها ممثلة المجلس الأعلى للتربية والثقافة التابع لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، لانتهاكات إسرائيل التربوية في فلسطين المحتلة. في الوقت نفسه كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يقول في الأمم المتحدة جملته الشهيرة: «لا تُسقِطوا غصن الزيتون من يدي». لا ترحّب خوري كثيراً بالحديث عن تجربتها السياسية التي بدأت باكراً أيضاً، لكنها تذكر أنها كانت المرأة الوحيدة ضمن الوفد الفلسطيني إلى باريس، والمرأة الوحيدة أيضاً في المجلس الأعلى داخل المنظمة.
يأتي اختيار خوري لهذه المهمة طبيعياً، لأنه يشكل جزءاً من مسيرتها العملية التي بدأت منتصف الستينيات، بل قبل ذلك أيضاً. فخلال مرحلة الدراسة في الجامعة الأميركية، انتسبت إلى نادي الإنعاش الاجتماعي وكانت تشارك في دورات محو الأمّية لنساء المخيم. من تلك المرحلة تتذكر خوري كتاب القراءة الفلسطيني لمؤلّفه خليل السكاكيني، المعروف في أوساط الفلسطينيين آنذاك باسم «راس روس»، التي ترد في الصفحة الأولى من الكتاب. ترى خوري أنه أفضل الكتب: «يمكن القول إنه إلى اليوم لم يصدر كتاب بمستواه، إضافة إلى أننا كنا حريصين على أن نعلّم بالكتاب نفسه الذي كان يستخدم في فلسطين».
بعد حصولها على إجازة في الأدب العربي والتربية، عملت خوري في معاهد تدريب الأساتذة التابعة للأونروا ـــــ اليونسكو، وهذا ما وفّر لها فرصة الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. «كنت أول شخص عربي يدخل إلى غزة بعد احتلال 1967». كذلك زارت كلّ مدراس الأونروا في كلّ مخيمات اللجوء في الوطن العربي: «كانت تجربة غنية لي حتى لو كنت فلسطينية وأعرف المعاناة، هذه التجربة أغنتني كثيراً من الداخل».
استمرّت خوري تتنقل بين دولة وأخرى، وبين مخيم وآخر حتى صدر قرار إسرائيلي بمنعها من دخول فلسطين عام 1976، بعد ذلك بثلاث سنوات، ولأسباب تفضل عدم نشرها، استقالت من عملها وعادت إلى الجامعة الأميركية لتعلّم مادة «دراسات حضارية». لا يسعها إلا المقارنة بين الجامعة كما عرفتها طالبة، والجامعة اليوم: «في الستينيات كانت بيروت الشرارة الأولى لكلّ ما يتعلّق بالعالم العربي. أما اليوم، فللأسف أجدني مجبرة على القول إننا تأخرنا كثيراً عن تلك المرحلة لجهة الوعي والقيم والمنظومة الثقافية كلها بعدما سيطرت قيم السوق على كل شيء».
في بداية عام 2000، تحمّست خوري للمشاركة في تأسيس جمعية أطلق عليها «جمعية تضامن المرأة العربية» تهدف إلى تمكين المرأة والطفل. تزامنت هذه الفكرة مع تحرير الجنوب، ما دفع المؤسِّسات إلى اختيار «مدرسة بنت جبيل الرسمية الإعدادية المختلطة» لانطلاقتهن المتواضعة، فعملن على تغذية مكتبتها. لكن المدرسة دُمرّت عام 2006، فركزت الجمعية نشاطها في صيدا حيث أسست مركزاً لتوعية الأطفال وأمهاتهم «لحماية أطفال مهددين بالتحوّل إلى أطفال شوارع».
تجربة خوري قديمة مع الأطفال، تعود إلى سنوات عملها في منظمة التحرير الفلسطينية، حيث واكبت مرحلة تأسيس رياض الأطفال وخاضت تجربة تصفها بالرائعة معهم، عادت وسجّلت بعضها من خلال قصص صدرت عام 2001 عن دار الحدائق. من هذه الإصدارات «كيف نحمي دارنا؟»، «الفراشة الحمراء» و«عيد ميلاد مرج» التي لم تتقاض شيئاً من أرباحها، بل تبرعت بها، كعادتها، إلى جمعيات تحتاجها.


غسان كنفاني

لكلّ طقوسه في علاقته بالمقهى. هذا ما تقوله سميرة خوري التي يلفتها قيامنا بتسجيل ملاحظات على «كلينكس» المطعم الذي دار فيه الحوار. تتذكر بحزن أن الأديب الفلسطيني غسان كنفاني كان كلما دخل مقهى سحب علبة الكبريت وراح يرسم عليها وجوهاً، غالباً ما يهديها موقّعة إلى مجالسيه، وهو يقول ممازحاً: «هذا وجهٌ كنفانيّ».