إيلي شلهوبكثير من الجلبة ومعها كثير من الوعود النابعة هذه المرة «من القلب». تعهّدات بمليارات الدولارات، وتكرار للالتزام بـ«حل الدولتين» وشرعية السلطة ودعم قواتها الأمنية والتمسك بشروط الرباعية للتعامل مع «حماس» (منفردة أو ضمن حكومة وحدة فلسطينية)، وانتقادات أكثر حدّة لإسرائيل (بخلفيات «إنسانية» أو انطلاقاً من موقف سابق يطالب بوقف الاستيطان)،... كله كلام قديم بحلّة جديدة. مناسبته: الزيارة الأولى لهيلاري كلينتون إلى المنطقة بصفتها وزيرة للخارجية. الحجة: المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ. العنوان: تكثيف الجهود في محاولة إحداث تقدم في عملية السلام. عوارض جانبية: لقاء عابر مع وليد المعلم وإعلان إيفاد مبعوثين إلى دمشق.
أما الغاية فهي، كما بدا واضحاً، طهران التي لا يمكن أن تكون كل هذه السهام التي صوّبت نحوها خلال أيام معدودة مجرد صدفة محضة؛ بدءاً بكلام سعود الفيصل عن ضرورة مواجهة التحدي الإيراني، مروراً بتشكيك كلينتون في استجابة الجمهورية الإسلامية لمبادرات إدارة باراك أوباما، وباتهام محمود عباس لها بشقّ الصف الفلسطيني، وصولاً إلى حديث أحمد أبو الغيط عن محاولاتها شقّ وحدة الصف العربي.
كذلك لا يمكن أن تكون كلينتون واهمة إلى حد اقتناعها بإمكان تحريك المسار الفلسطيني في ظل حكومة اليمين الإسرائيلية المتوقعة. حكومة لا يرغب فيها أحد، حتى رئيسها نفسه، الذي جاهد، ولا يزال، لتأليف حكومة وحدة وطنية، يرفضها «كديما»، مراهناً على سقوط مدوّ لنتنياهو وانتخابات مبكرة، وحزب «العمل» آملاً ترميم نفسه واستعادة بعض شعبيته من موقع المعارضة، رغم استماتة إيهود باراك على وزارة الدفاع.
كذلك فإن «بيبي» لم يترك للضيفة الأميركية فرصة خداع نفسها حتى. كان حريصاً، على ما يبدو، على تأكيد رفضه منح الفلسطينيين دولة وسيادة، وعزمه على الاحتفاظ بـ50 في المئة من الضفة، ما إن وطئت قدماها شرم الشيخ، علماً بأنه سرّب قبلها بيومين تصوّره عن «التسوية الانتقالية» مع سوريا، مع ما فيها من ألغام.
تدرك كلينتون أيضاً أنها عاجزة عن إبقاء «حماس» خارج المعادلة، وأن إشراكها في اللعبة وفقاً للشروط التي تريدها لا يمكن أن يحصل من دون ضوء أخضر من سوريا، ومن خلفها إيران، حيث بيت القصيد بالنسبة لواشنطن.
صحيح أن هناك إجماعاً داخل إدارة أوباما على الإطار العام للتعامل مع الجمهورية الإسلامية: الدخول معها في مسار دبلوماسي كخيار ثالث بديل من الاعتراف بها قوةً نووية والتأقلم مع واقع كهذا، وعن شنّ ضربة تحول دونها معطيات عسكرية وأزمة اقتصادية تنهك الولايات المتحدة. مسار يقوم، بحسب لي هاملتون المعروف بأن أوباما يستشيره في هذا الملف، على «إظهار احترامنا للشعب الإيراني والتخلي عن تغيير النظام كأداة في سياستنا الخارجية، واستغلال الفرص لإقامة سلسلة من الحوارات حول مجموعة من القضايا (بلا شروط مسبقة)، والاعتراف بالقلق الأمني لإيران، وبحقها في طاقة نووية سلمية».
لكنّ هناك انقساماً، يفسر الرسائل الأميركية المتناقضة، بين تيارين داخل هذه الإدارة، ستحدد نتيجة صراعهما السياسة التي ستُتبع حيال طهران: الأول، يدفع باتجاهه وليام بيرنز وجورج ميتشل وريتشارد هولبروك بدعم من روبرت غيتس والجنرالات، ويدعو إلى الإسراع في تخفيف حدة التوتر مع إيران والدخول معها في محادثات في إطار دبلوماسية متعددة الأطراف (عمادها مجموعة 5+1) في محاولة للوصول إلى تفاهمات تؤمن تهدئة في مجموعة من المناطق بدءاً من أفغانستان مروراً بالعراق وفلسطين، وصولاً إلى لبنان. الانفتاح الأميركي حيال روسيا يعود في جزء منه إلى استغلال «تعاون» موسكو كرافعة للضغط على إيران في إطار الدبلوماسية المتعددة الأطراف هذه.
أما التيار الثاني فيقوده دنيس روس بدعم من إسرائيل واللوبي اليهودي في أميركا، ويدعو إلى دبلوماسية عدوانية عبر طرف ثالث حول البرنامج النووي الإيراني حصراً، تشدد العقوبات (بينها حظر دخول المشتقات النفطية المكررة إلى الجمهورية الإسلامية) وتبقي التهديد بضربة عسكرية خياراً قائماً. ويقول هذا التيار بمحدودية المدة الزمنية التي يمكن استغلالها لسبر إمكان حلّ الملف الإيراني عبر محادثات يخشى أن تستغلها إيران للانتهاء من صناعة قنبلة نووية. كما يخشى هذا التيار، ومعه جنرالات إسرائيل، من امتلاك الجمهورية الإسلامية أنظمة صاروخية من طراز «اس اس -300» الروسية الصنع تجعل من توجيه ضربة جوية لإيران أمراً أكثر صعوبة.
في المقابل، تبدو ساعة طهران تسير بطريقة معاكسة. هي ترى المسار مقلوباً، يبدأ بفلسطين، حيث بيت القصيد، لا بالبرنامج النووي. كان المرشد علي خامنئي الأكثر وضوحاً في التعبير عما يختلج العقل الإيراني. قال إن أوباما يسير في «الطريق الخاطئ» لأنه «لا يزال يتحدث عن التزامه بلا قيد أو شرط بحماية أمن إسرائيل».
الرسالة الأميركية لا شكّ في أنها وصلت طهران. يبقى معرفة إن كانت الرسالة الإيرانية وصلت واشنطن.