أنسي الحاجهناك عَيشٌ تحت التراب أكثر حياةً من العيش فوقه. ليس المقصود الشهرة بعد الموت بل، بكلّ بساطة، العيش كما نفهمه: التنفّس واليوميّات. من أين لنا الجزم بهذه الفكرة؟ من معطى واحد هو كون بعض الحيوات الأرضيّة من البؤس أو التمزّق بحيث يستحيل أن يكون ثمّة ما هو أسوأ، بما في ذلك الموت.
لذلك من المبالغة الزعم أن المرء لا يغادر هذه الدنيا إلاّ مرغماً. فالبعض يعيش في هذه الدنيا مرغماً.
ينصرف المرء آسفاً على ما يحبّ، على مَن يحب، على نفسه بسبب مَن يحبّونه. ومَن يستطيع القطع بأنه حيث يتبخّر، حيث يتغيّم أو يُنجّم، أو يَنْسم أو يُمطر، أيّاً يكن مصير لَهَبه ـــــ مَن يجزم بأنّه لن يعرف هناك فرحاً ولا حبّاً؟ قد يمرّ الواحد بمراحل من حياته يشعر معها، بل يؤمن إيماناً، بأنّه متجذّر في الحياة، في الحياة هنا، إلى حدّ التوحّد مع كلّ حياة، بل يصبح هو الحياة وتنتفي من رأسه فكرة الموت، وإذا خطرت له أو جيء على ذكرها أمامه أحسَّ بأنّ أيّ احتمال لنهايته سيكون الظلم الأكبر، وأنّه سيقاومه وسيتغلّب عليه. تلك هي معجزة الصبا وقوّة الانتشاء باللحظة. ولا ريب أن نهاية إنسانٍ على هذه الحال من الاختلاج، لهي عدوان يأباه الموت نفسه، هذا الوكيل البريء...
تلك حالات الاحتفال حيث يبلغ قرص الشمس أقصاه عند الظهيرة. حينها، كلّ ما يتحرّك جميل، وتُحسّ أنّه لا يعوزك شيء. خاصة إذا كان لك صديق... لعلّ كل بدائع الكون من أخطرها إلى أبسطها لا تُغني عن صديق. يُستغنى عن الحبّ، عن الزواج، عن النجاح والأمجاد، يُستغنى عن الرفاهية والثروة، ولا يُستغنى عن الصديق. لا يُستغنى إلّا بالرغم. لا أعرف مَن قال إن الذي يعيش بلا صديق يموت بلا شاهد. كان لي مرّة صديق ومرّة أخرى صديق ثانٍ، وحين خسرتُ صداقتهما أصابني يتم من نوع آخر. وكأنّه خُتم عليّ فلم تعد بي رغبة في صداقة، رغم استمرار حاجتي إليها. صحيح أن الصديق ألزم من الحقّ، وفي الصداقة عرْف الأمومة، وهي في منزلة القربان، وإذا سألتَها شرحاً لسببها أجابت. بعكس العشق، فقوّته في جهلك لأسبابه، وقانونه الجنون. الواقع أن ما يبحث عنه الإنسان في الحبّ قد لا يجده إلّا في الصداقة، مثل الولاء والوفاء، لكن الصداقة فاترة والحبّ لاهب، وهذا ما يقرّبها إلى العقلانيّين وينأى بالحبّ عن غير هواة الحريق.
الاصطدام بقبائح المعشوقة يمكن أن يفضي إلى الطلاق مع فكرة العشق، إلى كراهية النساء. الاصطدام بقبائح الصديق يهزّ، يوجع، لكنّه لا يهدم فكرة الصداقة.
غَدُ المعشوقةِ يُقلق. غدُ الصديق يرخي رأسك على طمأنينة.
■ ■ ■
أوشك البحر أن يغمر الشاطئ والحائر لا يزال ضائعاً بين ملاكه وشيطانه. لقد كانت هذه حريته الوحيدة.
في وقتٍ ما يستشعر المرء مفاتيح ماضيه ويستشرف الطريق. قد يُظنُّ أنها لحظة من أشدّ اللحظات خطورة إن لم نقل خطراً، ولكن من الممكن أن تحصل بلا خضّة، حتّى لو كانت كشفاً من النوع الذي لا يسعد صاحبه. كأن يكتشف المرء، في ومضة، أنه ينتهي خلافاً لما كان يأمل أو يخشى. سقوط التوقّعات، بروز مفاجأة ساخرة، أسخف من أيّة سخافة، أو، بكلّ بساطة، مفاجأة تُنفِّس كرة الكبرياء وتطعن كرامة النرجسي في الصميم. «ماذا!؟ أكنتَ تتوقّع لنفسك مصيراً صدامياً، كعراكٍ ما مع إلهٍ ما!؟ أكنت تحسب لنفسك ردّة فعل مأسويّة، تُشبه بعض ما قرأت!؟ يا لسذاجة البشر!». ذلك كان حبراً وورقاً وهذا، أي أنت، ورقة صفراء صغيرة في غابة هائلة سَقْفُها ملايين الأوراق وأرضها ملايين الأوراق وتحت أرضها ملايين ملايين ملايين الأوراق التي لم تعد صفراء ولا أوراقاً بل صارت طحيناً أسمر أو أحمر أو أغبر لأرغفةٍ لن تعرف فرّانيها، مع أن جهد عروق أيديهم يطبعُ دمها.
سئل رجلٌ قَيْد محنة: «كيف تتحمّل وضعك دون حقد!؟»، وكان يريد أن يجيب: «لأن الخوف لم يترك محلاً لشعور آخر»، لكنه أجاب: «لكلّ شيءٍ ثمن». ثم قال لذاته: «حين نرى في الأسوأ مَخْرَجاً، نبدّد هالة الأسوأ».
في أن يستطيع المتألّم الابتسام، تعويض له. وفي الكتمان عزاء آخر. كذلك في مواصلة الاختلاط بشؤون الحياة كأن شيئاً لم يكن، ولو ألغى بعض الاهتمامات. لكن الأمر ليس بهذا التجرّد ولا بهذه الطيبة. وقد يُضْمر المتألّم الصابر أمراً ما... كأن ينتقم في ما بعد. انتقام ما وراء القبر، مجسّداً تحت شكل شبح كما في الأفلام، أو متقمّصاً حيواناً أو عاصفة، أو في صورة حلم. معروفٌ أنَّ الأحلامَ هي أَحْيَلُ المنتقِمين.
■ ■ ■
ما دمتَ أنتَ الجرح وأنتَ السكّين فثَمَّ توازن.
يأتي حينٌ تسقط فيه السكّين فلا يعود في وسعكَ التباهي بأنك أنتَ مَن يطعن نفسه، بأنك أنت الجلاّد والضحيّة. حينئذٍ إمّا أن تستسلم للذعر والصراخ وإمّا أن تستعيض عن غياب السكّين المعلَنَة بسكّين أخرى، مستترة، سكّين محايَدَة الهاوية، سكّين الرواقيّة دون مبالغة، سكّين لا تَعرِضُ صليبها.
هنا أيضاً ليست بريئة. لا بدّ من مكيدة. لا قداسة ولا بطولة. قناع محلّ قناع. خجل عوض الكبرياء أو كبرياء عوضَ المكابرة. لا بدّ. لا أحد فوق الخوف.
فوق الخوف لا. فوق الصراخ بلى.
الأوّل ألْصَقُ من الروح. الثاني عيب.
■ ■ ■
أليس بكَ فضولٌ لمعرفةِ مَن سيكون البادئ على حساب نهايتك؟
يا ورقة الخريف التي ستقع، كم من آمال معقودة على سقوطك!
■ ■ ■
لو عَقَلَ الإنسان لما حكى غير الندب ولما كتب وخطب غير المراثي. قسْط بسيط من حياته للاحتفال بالمسرّات، والباقي بالكاد يكفي للتحسّر. أيّ فخّ! أيّة وَقْعة! لا شيء يبرّر هذه النهاية. حتّى لو كانت مثل شمعة تنطفئ بهدوء. ما من هدوء. ما من خسوف سعيد. ما من غيابٍ هانئ. لا شيء يغفر هذا المجيء المنتهي بهذا الرواح، لا شيء يجعله نصف مقبول غير إقناع النفس بالعودة.
العودة والتعويض.
لا قداسةَ ولا بطولة.
ضميرٌ مستتر.
أعفِهِ فقط من الحمولة الزائدة!
■ ■ ■
يموت البعض احتراماً منهم لحياتهم وضنّاً برونقها. ينسحبون عندما لا يعودون لائقين بها.
الموت هو أيضاً شكل من أشكال الدفاع عن الحياة.


عابـــرات

ماءُ النبعِ نقيّ... لكنَّ البرقَ نقيٌّ أيضاً.
■ ■ ■
انقشاعاتنا المصنوعة من نوبات: نوبة غضب، نوبة ندم، نوبة شفقة، إلخ... إنّها صفاءات الرعود، تجلّيات السقطات. (مقارنتها بانقشاعات التأمّل والصفاء، حيث دائرة النور تتّسع وتكبر من شمعة إلى شموس).
■ ■ ■
أخطر ما بين اثنين، لحظة الانتقال من الخيال إلى التنفيذ: عليها يتوقّف مصير العلاقة. ما يرسيه الخيال من أساسات ويرفعه من طبقات قد ينسفه التنفيذ في لحظة. لو بقيت العمارة في شرنقة سلبيّتها لولدتْ فراشات لا تتبشّع ولا تموت، بل تتوالد من ساحرة إلى أشدّ سحراً. لم يقع انهيار إلاّ على يد الحركة. أمّا الحركة المثمرة إيجابيات فتلك التي حقّقت معجزة الحصول دون انفصال عن السكون، إذا اعتبرنا أن الحلم والخيال سكون.
وأكثر ما تُرى هذه الحالة في الخَلْق الشعري والفنّي والهندسي، وفي العلاقة القائمة على الافتراق بعد القرب فوراً، في نصف الغيبوبة السابق لعودة الوعي...
■ ■ ■
ثلاثةُ أنواعٍ من البراءة: براءةُ الذين أرادوا خيراً وكوفئوا شرّاً ولم يسعوا إلى انتقام، وبراءةُ الأطفال الذين يموتون، وبراءة مستقيلي الطموح، المدخّنين على أرصفة العالم، يغادرون بيوتهم في الصباح كمكفوفين ويسرّبون إليها في المساء كبُكم.
■ ■ ■
إنَّ أصعبَ عملٍ يأتيه المرء هو أن يطفئ الضوء لينام.