تعلن ألمانيا، لأسباب تاريخية منذ الخمسينيات، عن تضامنها مع إسرائيل. وينطبق الأمر ذاته على الرأي العام الألماني؛ فهو دأب، بدوره، على اتخاذ موقف مؤازر لإسرائيل. بيد أن ثمة ما يشير إلى أن الميل لمناصرة هذه الدولة والتضامن معها قد طرأ عليهما تحول منذ بضع سنوات. تسعى هذه المقالة (المحاضرة) إلى تحليل الظروف التي أحاطت بنشأة المواقف التي اتخذتها وسائل الإعلام الألمانية عند عرضها للصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي والتحولات التي طرأت على هذه المواقف. وسنستشهد، في كل هذا، بالحرب الأخيرة على غزة.
شتيفان فايدنر *
غنيّ عن البيان أنّ التصريح الذي أدلت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كان مفاجئاً في انحيازه الشديد لإسرائيل: فبحسب وجهة نظرها، تقع مسؤولية اندلاع الحرب على عاتق «حماس» فقط. وبتقييمها هذا لأسباب اندلاع الحرب، غضّت المستشارة الألمانية طرفها عن الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة على مدى سنوات عديدة، وتجاهلت، تجاهلاً تامّاً، تاريخ الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.
وكان هذا التصريح من المستشارة مفاجئاً لسببين: أولاً لأنه تصريح تنقصه الروح الدبلوماسية؛ وثانياً، لأنه تضمّن موقفاً لا يعكس الآراء المختلفة التي يتبناها الرأي العام الألماني حيال هذا الصراع.
ومهما كانت الحال، لا يفوتني هنا أن أنبّه، إلى أن حديثي التالي عن اتجاهات الرأي العام الألماني لا يمكن توثيقه من خلال البيانات الإحصائية ولا من خلال الدراسة العلمية المعمقة لوسائل الإعلام أو لاستطلاعات الرأي العام. فالزمن لا يزال مبكراً لتوثيق هذه الاتجاهات بالبيانات الإحصائية أو بالدراسة العلمية الموثقة أو باستطلاعات دقيقة للرأي العام؛ أضف أنّي لست باحثاً متخصّصاً بمسائل وسائل الإعلام. من ناحية أخرى، لا شك في أنه حتى أدق بيانات الإحصائيات لن تقدم شيئاً مهماً لهدفنا، الرامي إلى تقييم حديث وسائل الإعلام عن هذه الحرب. وللإحاطة بهذه الحقيقة نود أن نسوق المثال الآتي:
مع أنّ الكثير من الحقائق تشير بوضوح إلى أنّ معظم الرأي العام الغربي، والرأي العام الألماني على وجه الخصوص، يتخذ موقفاً مؤيداً لإسرائيل، تزعم هذه الدولة ومعها أصدقاؤها أنّ معظم وسائل الإعلام تنتهج مواقف مناهضة لها (أي إسرائيل)، وأنه لا أمل لها في أن تخرج منتصرة من المنافسة على كسب ود المواطنين في الغرب. وعلى ما يبدو، تستخلص إسرائيل من هذا التقويم، أنه لا يجوز لها أن تكترث بالمواقف التي يتخذها الرأي العام، فبذلها الجهد للفوز بكسب ود الرأي العام يعني خوض معركة خاسرة، وبالتالي فإن عليها أن تفعل ما يطيب لها فعله. والعكس بالعكس بالنسبة للطرف الآخر: فحتى وإن كان بمقدورنا أن نتخذ، في وسائل الإعلام الغربية، موقفاً يميل إلى نصرة الفلسطينيين، فمن المتوقع جداً أن يظل الفلسطينيون والعرب غير راضين عن أسلوبنا في عرض الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.

استياء لدى طرفي النزاع

كل طرف من طرفي النزاع يتّهم وسائل الإعلام، في الدول غير المعنية بالصراع بنحو مباشر، بأنها تشوه الحقيقة. وتفسير السبب الذي تستند إليه هذه التهمة سهل: فسببها يكمن في أنّ لا أحد من طرفي النزاع، يعثر في وسائل الإعلام الغربية، على عرض يتطابق كلياً مع تصوّراته لحيثيات الصراع، يكمن في أنّه ليس ثمة طرف واحد يشعر بأن قضيته تُعرَض بنحو مناسب. وفي الواقع، فإن هذا أمر بديهي؛ لأننا في أوروبا وفي ألمانيا على وجه الخصوص، لدينا، طبعاً، وجهة نظر خاصة بنا بخصوص حيثيات هذا الصراع. من هنا يسيطر على الطرفين المتنازعين إحساس بأن وسائل الإعلام في الدول الغربية لا تنظر للصراع نظرة تتسم بالعدالة والإنصاف.
وإذا كنّا نريد أن نتعرّف على موقف الرأي العام في ألمانيا، فإنّه يستحسن بنا، والحالة هذه، أن نركّز نظرنا على موقف وسائل الإعلام القريبة من الحكومة، من ناحية، والمسيطرة على الساحة الإعلامية من ناحية أخرى؛ فموقفها من الصراع، هو المعيار الأساسي. وأدرج في عداد هذا النوع من وسائل الإعلام، كلاً من الإذاعات المرئية والمسموعة الممولة من الدولة ومن المشاهدين والمستمعين، والمعروفة بـ«الخدمة العامة» وكذلك الصحف اليومية والمؤسسات الإعلامية الكبرى (المستقلة وغير الخاضعة للحكومة)، وما تقدم هذه الصحف والشركات من برامج إعلامية تبثها على شبكة الإنترنت. أعني على سبيل المثال، لا الحصر، مجلة «دير شبيغل» الأسبوعية وموقعها على شبكة الإنترنت المعروف بـ«شبيغل أون لاين» (Spiegel-Online).
وإذا كان معروفاً أن عدد مشاهدي القنوات الخاصة يزيد على عدد مشاهدي قنوات «الخدمة العامة»، فإن تأثير الأخيرة في اتجاهات الرأي العام، أكبر بكثير لأنها تولي أهمية أكبر لتغطية القضايا السياسية. (وبحسب وجهة نظري، ينطبق الأمر ذاته على الجرائد التي تعتمد الإثارة).
ولو أمعنّا النظر في الأسلوب الذي عُرضت فيه الحرب على غزة في وسائل الإعلام القريبة من الحكومة وذات الأهمية من حيث سيطرتها على الساحة الإعلامية، خلال الفترة الواقعة بين نهاية أيلول/سبتمبر من عام 2008، ونهاية كانون الثاني/يناير من عام 2009، فبإمكاننا القول: إن وسائل الإعلام اهتمت بهذا الصراع وبثّت أخبار الحرب وتداعياتها بكثافة فعلاً! فقد شغل هذا الموضوع، على مدى شهر كامل تقريباً، حيزاً كبيراً في الأخبار والتقارير التي بثتها كل وسائل الإعلام؛ وتأسيساً على هذه الحقيقة، ما كان بوسع أي شخص أن يصم أذنيه ويغمض عينيه عن أخبار هذه الحرب؛ نعم لم يبقَ أحد يجهل عدد قتلى الطرفين، ولم يبق أحد لا علم له بأن الحقائق والوقائع تُفسَّر بنحو مختلف، وأن الآراء بشأن هذه الحقائق والوقائع تتباين تبايناً عظيماً. وهكذا، فلو تخيلنا وجود مراقب ليست لديه معرفة مسبقة بخلفيات بهذا الصراع وافترضنا أن هذا المراقب تابع ما تنقله نشرات الأخبار والتقارير المقدمة من كل الصحف والإذاعات ومحطات التلفزة بشأن هذا الصراع، فليس من شك في أن الأمور ستختلط عليه إلى حدّ بعيد، وسيظل حائراً مشتّتاً بشأن الموقف الذي يتعين عليه اتخاذه من هذا الصراع.

أحكام مسبقة

إلا أن واقع الحال يشهد على أن معظم الناس لديه أحكام مسبقة. وتأسيساً على هذه الحقيقة، فمن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى صفتين يتميز بهما الألمان في اليوم الحاضر، أعني المعيارين اللذين يلعبان دوراً عظيم الأهمية في تقييمهم للصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي. فمن ناحية، هناك الشعور العميق بالذنب التاريخي مما اقترفه الألمان بحق اليهود؛ وغني عن البيان أن الشعور بهذا الذنب ينعكس لمصلحة إسرائيل عندما يحدد الألمان موقفهم من هذا الصراع. إلا أن علينا أن نأخذ بالاعتبار أن هذا الشعور بالذنب قد أخذ، مع مرور السنين، يضعف ويتلاشى. ويلحظ المرء، بنحو بَيِّن وجلي، تلاشي الشعور بالذنب عند جيل الشباب على وجه الخصوص. بيد أن هذا الجيل لم يتحمل بعدُ مسؤولية توجيه وسائل الإعلام واتخاذ القرارات السياسية.
وترتبط الصفة الثانية، التي أود الإشارة إليها هنا، بالحرب العالمية الثانية أيضاً: إنها الصفة التي تنعكس في جنوح الألمان إلى مناهضة كل أنواع الحروب وإيمانهم بمذهب المسالمة. فبالنسبة لمعظم الألمان، فإن الحرب واستخدام القوة وسائل مستهجنة لا طائل منها في حل النزاعات. وعلى خلفية مذهب المسالمة هذا، رفض الألمان المشاركة في الحرب على العراق. وانطلاقاً من الحرب على غزة، لا مجال للشك في أن مذهب المسالمة ليس في مصلحة إسرائيل: فاستخدام الأسلحة العسكرية، بلا رحمة ومن غير مراعاة للنتائج التي تتمخض عنها، يسيء إلى سمعة إسرائيل في ألمانيا.
وثمة نقطتان لا مندوحة لنا من أن نأخذهما بالاعتبار عندما نريد تقويم موقف الرأي العام الألماني من الحرب في غزة. فالملاحَظ هو أنّ الكثير من مواطني الدول الغربية يعتقدون أن العوامل التي تربطهم بإسرائيل أمتن بكثير من العوامل التي تربطهم بالعرب. ويقوم هذا الاعتقاد على أسباب عديدة يسيرة الفهم: فإسرائيل تبدو، بالنسبة للمراقب الذي ينظر إليها من الخارج، دولة غربية، أو أوروبية. فالكثير من الإسرائيليين من أصول أوروبية؛ أضف إلى هذا أن إسرائيل تمثّل جزءاً من التراث التاريخي والديني المحفور في وجدان العالم الغربي (أي أنها جزء من ذلك التراث الذي لا يعثر عليه المرء بسهولة عند الحديث عن عوامل التشابك مع دول المشرق العربي). على صعيد آخر، فإن كل طفل في الغرب يعرف اسم إسرائيل من خلال مطالعته الكتاب المقدس.
ومنذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من عام 2001 على وجه الخصوص، يتزامن هذا المزاج المناصر لإسرائيل في ألمانيا والعالم الغربي في المنظور العام، مع خوف من العرب والمسلمين عامة. إن التضامن المتخيل مع إسرائيل يقابله تحفظ المتخيل حيال العرب والمسلمين. وبقدر ما يتعلق الأمر بالحرب على غزة، يتجلى هذا الخوف من خلال التصورات التي ينطلق منها المرء عند تقويمه لـ«حماس» على وجه الخصوص. ففي كل تعليقات وسائل الإعلام المسيطرة على الرأي العام وتقاريرها، سادت نبرة أساسية يستشف المرء منها أن «حماس» التي يرأس مكتبها السياسي خالد مشعل، تنظيم شرير لا خير يرتجى منه. وتتجلى هذه النبرة، على وجه الخصوص، من خلال النعوت التي يصف بها المرء الحركة الإسلامية بنحو مستمر، نعوت صارت تبدو كما لو كانت بديهيات لا يرقى إليها الشك. فاسم «حماس» يكاد ألا يُذكر إلا ومعه نعوت من قبيل «المنظمة الإسلامية المتطرفة» أو «المنظمة التي تريد تحقيق أهدافها بقوة السلاح» أو «إرهابيو حماس». وهكذا، تقارن أكثرية التعليقات حماس بحركة طالبان وبتنظيم القاعدةإنّ نجاح الدبلوماسية الإسرائيلية بإقناع الاتحاد الأوربي بضرورة إدراج «حماس» في قائمة المنظمات الإرهابية، كان فوزاً كبيراً يُسجل لمصلحة أساليب الدعاية الإسرائيلية. فبفضل هذا النجاح، ما عاد اسم «حماس» يُذكر إلا ومعه النعوت التي أشرنا إليها آنفاً. بيد أن استجابة الاتحاد الأوروبي لمطالب الدبلوماسية الإسرائيلية أدى في نهاية المطاف، إلى إضفاء الشلل على الدبلوماسية الأوروبية، فهذه الدبلوماسية لم يعد مسموحاً لها التفاوض مع «حماس»، إذ كيف ستقوم بذلك إذا كانت مدرجة في قائمة المنظمات الإرهابية؟
وثمة خاصية أخرى تهيمن على سائل الإعلام الغربية، ولو بدون قصد منها، تساعد في تحسين صورة إسرائيل لدى الرأي العام في الغرب: فوسائل الإعلام لدينا تُحجم عن عرض جثث القتلى وصور الضحاياوالمصابين لأسباب تتعلق بحرمة القتلى والضحايا. من هنا، فحينما يزيد عدد القتلى الفلسطينيين على 1400 شخص ولا يتجاوز عدد القتلى الإسرائيليين 13 شخصاً، فلا ريب في أن الطرف الأقوى هو الذي ينتفع من التقيد برعاية حرمة الضحايا: فحين يقدم المرء على عدم عرض ضحايا الطرفين المتصارعين، فإنه بذلك يتجاهل حقيقة أن القتيل الواحد عند هذا الطرف قابله مئة قتيل عند الطرف الآخر.

شرط رديء... تطوّر إيجابي

ويمكننا القول، باختصار، إن الشروط الضرورية لاتخاذ موقف مناصر للفلسطينيين، أو لاتخاذ موقف متوازن على أدنى تقدير، في الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني، غير مواتية، أصلاً، في ألمانيا. وتأسيساً على هذه المعطيات، يبدو لي أنّ عرض وسائل الإعلام الألمانية لوقائع وتداعيات الحرب على غزة قد انطوى على تطور إيجابي بالنسبة للقضية الفلسطينية. فمنذ اهتمامي الشخصي بهذا الصراع، أي منذ حوالى عشرين عاماً، لم أسمع، إلا نادراً، تنديداً بإسرائيل يضاهي، من حيث شدته وكثرة الأصوات المعربة عنه، كالتنديد الذي سمعته في الأسابيع الثلاثة التي استمرت فيها الحرب.
وأود أن أسوق هنا مثالين، الأول منهما مستقى من الأيام التي بدأت فيها الحرب، والثاني منهما يعود إلى الأيام التالية على توقف الحرب. وكلا المثالين مأخوذ من القناة الأولى في التلفزيون الألماني ARD، وهي أهم وأقدم قناة تلفزيونية شبه حكومية في ألمانيا (قنوات الخدمة العامة). ففي يوم من أول أيام الحرب، وبعدما أعلنت ميركل عن موقفها المتحيز لإسرائيل، استضافت هذه القناة المستشرق الألماني المعروف أودو شتاينباخ (Udo Steinbach) وكلفته بأن يقدم تعليقاً على هذا التصريح. وكما هو معروف فإن أودو شتاينباخ يتخذ موقفاً ثابتاً من حيث مناصرته للقضية الفلسطينية. وهكذا، راح شتاينباخ ينتقد الحكومة الألمانية ويدافع عن «حماس» ويدين الهجوم الإسرائيلي. لقد استمع الألمان المنصتون إلى النشرة الإخبارية الرئيسية، أي النشرة الإخبارية التي تُقَدم في أفضل ساعات البث التلفزيوني، إلى أول صوت يتخذ موقفاً مناصراً للفلسطينيين بلا لف ودوران في الصراع الدائر بين الفلسطينيين وإسرائيل.
إلا أن القناة الألمانية الأولى كانت ستخرج عن عادتها، فيما لو كانت قد تركت وجهة النظر، التي أعرب عنها شتاينباخ في سياق تعليقه المؤيد للقضية الفلسطينية، بلا صوت يرد عليه.
فبعد استطلاع رأي شتاينباخ مباشرة، ظهر على الشاشة محرر من القناة ليقدم تعليقاً سياسيا يساند إسرائيل بوضوح. وهكذا كان بمقدور المشاهدين أن يقرروا لأنفسهم ما إذا كان سيصدقون ما يقوله لهم شتاينباخ أو أن يأخذوا بوجهة النظر (شبه) «الرسمية» التي تقدمها لهم القناة الأولى من خلال تعليق أحد محرريها. ولا ريب في أن المشاهد، الذي لم تكن لديه فكرة واضحة عن الصراع، قد ظل في حيرة وارتباك حيال وجهات النظر المتناقضة.
وبعد فترة قصيرة من انتهاء العمليات الحربية، كان بوسع المرء أن يلحظ الظاهرة عينَها في برنامج حواري تلفزيوني معروف بسجالاته السياسية الساخنة أي برنامج «Hart aber Fair» («قاس لكن عادل أو: صارم ولكن منصف»). فانطلاقاً من عنوان مفاده: «حطام دموي في غزة ـــــ إلى أي مدى علينا أن نساند إسرائيل ونتضامن معها؟» راح الضيوف يناقشون الحرب على غزة. والأمر اللافت للنظر كان أنّ ثلاثة ضيوف من أصل خمسة قد اتخذوا موقفاً مناصراً لوجهة النظر الفلسطينية. إلا أن هذه الحقيقة لا تجيز لنا القول إن النقاش قد انتهى بإدانة الهجوم الإسرائيلي. إنّ واقع الحال يشهد على أن الحيرة قد نشرت بظلالها هنا أيضاً، أي إنها ظلت على ما كانت عليه في بداية الحرب: فكل واحد كان يقاطع الآخر وكل طرف كان يصرخ في وجه الطرف الآخر. في ختام الندوة التلفزيونية المعنية، ما كان للمشاهدين غير الشعور بأن وجهة نظرهم المتخذة مسبقاً هي الصواب بعينه؛ فمن خلال النقاش المنفعل ما كان بمستطاع المشاهد أن يضيف شيئاً جديداً إلى معلوماته.
إنّ الحيرة التي لمسناها في هذه البرامج التلفزيونية تعكس، عموماً، الحيرة المسيطرة على الممسكين بزمام الأمور في وسائل الإعلام. فعلى ما يبدو، فإن المسؤولين عن إدارة وسائل الإعلام ما عادوا، هم أنفسهم، على بيّنة من الصورة التي يريدون إيصالها إلى الجمهور العام، باعتبار أنها هي الصورة الصحيحة. وتوحي هذه الحيرة بأن مشاعر التعاطف السائدة في وسائل الإعلام وبين الجمهور لم تعد، في ألمانيا ككل، مع إسرائيل بنحو سافر وأكيد.
وتؤدي هذه الحيرة إلى تخلي الجمهور عن إعطاء حكم واضح. بيد أن عدم وجود حكم قاطع، وعدم وجود تغير ملحوظ في الرأي العام، يصبّان في خانة مساندة الوضع القائم فقط، وفي خانة مساندة السياسة السائدة والوضع القائم. وغني عن البيان أن إسرائيل هي المستفيدة من هذه المساندة، وذلك لأنها هي الطرف الأقوى بحسب كل المقاييس. وهكذا، فإن بقاء كل الأمور على حالها برغم هذه النقاشات والسجالات، يعني أنّ إسرائيل قد ظلّت تحافظ على تفوقها وأن السياسة الألمانية والأوروبية (ومعها المستشارة الألمانية) ليست بحاجة إلى تغيير موقفها.
ولكي ننجح في تقويم النتيجة المترتبة على هذه الحيرة، لا بدّ من أن نأخذ بالاعتبار موضوعاً آخر: إن الكثير من المواطنين الألمان يعتقدون فعلاً أن الحرب على غزة قد كانت حرباً وحشية، أنها كانت حرباً قد أفرطت في استخدام القوة بنحو واضح وجلي، وأنها، بالتالي، كانت خطأً فادحاً. إلا أن توجيه الانتقاد إلى إسرائيل لا يعني بالضرورة أن المرء صار يكنّ تعاطفاً أكيداً مع الفلسطينيين. ويكمن تفسير هذه الحقيقة في ما كنا قد أشرنا إليه آنفاً: الصورة السلبية التي يرسمها المرء للإسلام والعرب بنحو عام. وعلى الصعيد نفسه، بما أن أكثرية المواطنين والسياسيين الأوروبيين يعتبرون «حماس» منظمة إرهابية، لذا زاد تولي «حماس» الحكم في غزة من صعوبة التعاطف مع الفلسطينيين.
من هنا، فإني أعتقد أن النقد الموجه إلى إسرائيل والشفقة على الفلسطينيين أمران لا تقف خلفهما دوافع سياسية، بل دوافع إنسانية. ومع أن الجمهور الألماني كثيراً ما يعلن عن شكواه من المصائب النازلة بالسكان المدنيين في غزة، إلا أن رثاء حال الفلسطينيين نادراً ما يرافقه تحليل سياسي للوضع القائم. ومعنى هذا هو أن الكثير من الألمان يتعاطفون مع الفلسطينيين كبشر، لكن القليل منهم يناصر القضية الفلسطينية. وغني عن البيان أن الفصل بين البشر وقضيتهم أمر ينطوي على تناقض، ينطوي على تجريد يبدو منطقياً، لنا فقط، نحن القاطنين في أواسط أوروبا المستظلة بالأمن والسلام. فواقع الحال يشهد على أنه لا يمكن الفصل بين الفلسطينيين وقضيتهم.
ولكن دعونا نتصور الآن أن الفلسطينيين، أو أن العرب جميعاً، قد أخذوا يطبقون سياسة إعلامية أكثر ذكاءً (في الحقل الصحافي على سبيل المثال). ودعونا نمضِ قدماً في تصوراتنا ونفترض أنهم صاروا يتوافرون على سلك دبلوماسي أفضل وأنهم أمسوا، داخلياً، أقلّ تطاحناً وانقساماً؛ ولنتوسع في تصوراتنا ونفترض أن الفلسطينيين، أو لنقل إن العرب ككل، قد انتهجوا استراتيجية موحدة، واقعية، لتسوية الصراع؛ لو حدث هذا كله فعلاً، لا ريب في أن إسرائيل ستخرج مندحرة من حلبة المنافسة على كسب ود الرأي العام الألماني والأوروبي ما دامت مصرة على تطبيق سياستها الراهنة؛ وعندئذ لن يدوم الأمر زمناً طويلاً حتى تخسر السياسية الإسرائيلية الدعم غير المشروط الذي تمنحه لها الحكومات الأوروبية.
وبالرغم من كل ما تتمتع به إسرائيل من شروط أفضل، أعني الشروط التي أشرنا إليها أعلاه، فهناك حراك في وسائل الإعلام الألمانية بالنظر إلى ما بُثّ عن الحرب على غزة. ومع أن الحيرة المذكورة آنفاً قد كانت في مصلحة إسرائيل في الوهلة الأولى، إلا أنها يجب أن تُفسر كتقدم، كخطوة نحو الأمام: فقبل بضع سنوات خلت، ما كانت هناك حيرة، فالمسؤولون في وسائل الإعلام شبه الحكومية كانوا يعتقدون أنهم على بيّنة من الموقف الذي ينبغي عليهم اتخاذه في هذا الصراع: مساندة إسرائيل والوقوف إلى جانبها في كل الأحوال. إن هذا الزمن قد مضى وانتهى. من هنا، فإني واثق من أن الفلسطينيين والعرب سيحققون نفعاً أكيداً فيما لو بذلوا جهداً أكبر لكسب ود الرأي العام في أوروبا: فإذا كانت القضية الفلسطينية قضية عادلة، فلا شك في أن هناك أملاً قوياً في أن يجري، إن عاجلاً أو آجلاً، النظر إلى الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني على النحو الذي تقتضيه الحقائق وتدعمه الوقائع.
* مستعرب ألماني ورئيس تحرير مجلة «فكر وفن» الألمانية. والنص أعلاه يستند إلى محاضرة ألقاها الكاتب في 4 شباط / فبراير الماضي في معهد «غوته» في رام الله.