لا تحتاج الإجابة عن سؤال: «من هو الأستاذ الذي ترك أثراً في حياتك؟» إلى الكثير من التفكير. ما إن يُطرح، حتى يبدي محدّثونا ترحيباً وسروراً كبيرين بالحديث عن أشخاص احتلوا حيزّاً كبيراً في حياتهم. منهم من يقول إنه تماهى مع أستاذه فاختار دراسة الاختصاص نفسه، ومنهم من جعل من أستاذه حبه الأوّل... وقد يكون التأثير سلبياً أحياناً، فيكره التلميذ مادة لأنه كره أستاذها
مهى زراقط
كان عبد المجيد في العاشرة من عمره عندما اضطر إلى ترك منزل والديه والإقامة في القرية المجاورة للالتحاق بالمدرسة. هناك استأجر، مع ثلاثة أولاد من قريته، غرفة صغيرة. بعد أسابيع قليلة من بدء العام الدراسي، قرر الأولاد الثلاثة الهرب، تاركين عباس وحيداً. يقول: «لم أهرب لسببين، الأول أني كنت متفوقاً ولم أجد سبباً يدفعني للهرب، ثانياً، خفت أن يزعل مني أستاذي». النتيجة كانت أن عباس قضى ليلته وحيداً وخائفاً في تلك الغرفة الموحشة، فلم ينم إلا قبل طلوع الفجر بقليل، ما جعله يستيقظ متأخراً، ويصل متأخراً إلى المدرسة. في الصف، كان أستاذ الحساب، واسمه حبيب طباجة، ينتظره غاضباً. سأله عن سبب التأخير، وعندما روى له الطفل ما حصل احتضنه ودعاه إلى بيته للإقامة فيه. منذ ذلك اليوم، ورغم مرور أكثر من خمسة عقود على هذه الحادثة، لا يزال عباس يتذكر حضن أستاذه «الذي تصرّف معي كأب».
يسترسل عباس في الحديث «كان الأستاذ حبيب يعامل كلّ التلاميذ بهذه الطريقة، وعندما خضعنا لامتحان السرتفيكا رافقنا إلى مركز الامتحانات وسألنا عن إجاباتنا وقال لنا اذهبوا وطمّنوا أهاليكم، ستنجحون كلكم وهذا ما كان بالفعل». عندما كبر عباس عمل أستاذاً، وكان أستاذه الأول نموذجاً له: «كان يحب عمله ويرغب فعلاً في الحصول على أفضل ما لدى الطالب، وهذا ما كنت أفكر به كلما دخلت إلى الصف».
السبب نفسه هو الذي جعل منال تحب معلمة اللغة العربية. «كنت في مدرسة فرنسية لا يهتم تلامذتها بالعربية، فميّزتني المعلمة لأني كنت متفوقة. حصل تواطؤ بيني وبينها وكنت أسعى جاهدة لأرضيها وأكون عند مستوى توقعاتها». أما معلمة اللغة الفرنسية التي لا تنساها روان فكانت بدورها «تحاول إخراج أفضل ما لدينا، لكن بطريقة قاسية ومستفزة لذلك لم أكن أحبها. كانت تسخر منا وتطلق تعليقات سمجة، إلى أن دخلتُ يوماً باكية إلى الصف. سألتني عن السبب، فقلت لها إني سمعت خبراً عن زلزال وقع في أرمينيا وقتل آلاف المواطنين، واستني وطلبت من كلّ زملائي في الصف الصلاة لراحة نفس ضحايا الزلزال. كانت طريقة ناجحة جداً أوقفتني عن البكاء».
اللافت أن العلاقة التي تربط الفتيات بمعلّماتهن، تختلف لدى الحديث عن المعلمين الذين غالباً ما يمثّلون «الحبّ الأول». تتذكر ريما أستاذ الرياضيات «الذي كنت أرى فيه الرجل الذي لم أره في محيطي، مهذب، خجول، يحترم الفتاة ولا يمارس سلطة عليها». كانت ريما في الثانية عشرة من عمرها آنذاك، متفوّقة في دراستها بخلاف أخيها الأكبر منها سناً، «فكان الأستاذ يحدّثني عن ضرورة الاهتمام بأخي وتوجيهه، أتذكر أنه كان يرتبك كثيراً وتحمرّ وجنتاه. أما أنا فكنت أفرح كثيراً وأشعر بأنه يقدّرني وقد عزّزت معاملته لي ثقتي بنفسي».
مريم أيضاً لا تنسى أستاذ الفيزياء الذي أُغرمت فيه عندما كانت في الصف الثانوي الأول: «كان يحب الفتيات، يغازلنا في الصف ويطلق الكثير من النكات. أحببنا المادة وجهدنا لنحصل على علامات مرتفعة من أجل إرضائه». تضحك عندما تتذكر الهدايا التي كانت تتراكم على مكتبه «معظمها قلوب وورود حمراء، استمررنا نرسلها له إلى أن زارته زوجته في المدرسة، يومها صدمنا جميعنا، وأطلقنا عليها أبشع الصفات». لكن مريم تؤكد أن هذا لم يؤثر على رغبتها في الاستمرار بإدهاشه «والحصول دوماً على العلامة الكاملة في مادته. لقد بقيت أحبه لكن بطريقة أخرى، كل ما يهمني الحصول على عبارات تشجيع منه».
قصة معاكسة تماماً ترويها إيناس عن أستاذ الرياضيات «الذي كنت أكرهه كثيراً وبالتالي أكره مادته، لم أقم بأي مجهود لأنجح فيها». السبب كان ملاحظة قدّمها ذلك الأستاذ لشقيقتها الكبيرة، «قال لها عني، أختك معترة ودرويشة، شوفو شو بدكن تعملولها». عندما عادت شقيقة إيناس إلى البيت وروت ما حصل أمام الأهل «وقعت الكارثة، تخيلي أهلاً يسمعون أن ابنتهم درويشة! كرهته وكرهت مادته. أنا متأكدة من أني فاشلة في العلوم بسببه والدليل أن علاماتي في المواد العلمية كانت ترتفع وتنخفض باختلاف الأستاذ».
يختلف الأمر عندما يكون التلميذ ذكراً، ذلك أن فارق العمر قد لا يتيح نشوء علاقة حب ولو من طرف واحد. لذلك عندما يقول نادر إنه أحبّ معلّمة اللغة الفرنسية كثيراً عندما كان في الصف الثالث المتوسط، يحرص على القول إنه «لم يكن حب رجل لامرأة، علماً بأنها كانت جميلة جداً. كلّ ما في الأمر أني كنت أحرص على عدم تخييب ظنها لأنها كانت تميزني عن رفاقي في الصف وتدافع عني، وخصوصاً أني كنت خجولاً جداً».
المعلّمة الجميلة والأنيقة التي لا يساعدها عمرها في أن تكون «فتاة أحلام» لتلاميذها الذكور، تنجح غالباً في تكوين نموذج للفتيات اللواتي سيحاولن تقليدها. سناء كانت مغرمة بمعلمة الرياضة التي كانت «جميلة جداً وترتدي ثياباً مميزة، أتذكر أني ارتديت جاكيت جينز أول مرة في حياتي بعدما رأيتها ترتدي واحدة. كما اشتريت نظارات مثل نظاراتها». تضحك سناء وهي تقول ذلك «لأن ابنتي تفعل مثلي اليوم، تخبرني عن ثياب معلّمتها وتطلب مني أن أشتري لها ألواناً مثل الألوان التي ارتدتها».