راجانا حميةكان الطقس عاصفاً في ذلك اليوم من عام 1996، وطرق القرية مقطوعة بالثلوج. لم يكن وارداً الخروج من المنزل، لكنه كان مصراً على الذهاب إلى مدرسته، رغم معرفته أنه لن يجد من يوصله إليها. فقد استيقظ يوسف، مدرس اللغة العربية في مدرسة رماسا المتوسطة، مهيئاً نفسه لساعات من المشي سيقطعها مشياًً من بلدته إلى البلدة المجاورة، حيث المدرسة. لم يكن يهمه تعبه وقدماه اللتان كانتا تخوضان في الثلوج، بقدر ما كان يشعر بضرورة الوصول وتوقيع اسمه على دفتر الحضور لئلا يُحرم من «بدل النقل». كان النهار قد انتصف عندما وصل، ولكن، قبل أن تبدأ حصته الدراسية بعشر دقائق. فاستغل الوقت الباقي كي «ينشّف» قدميه من المياه «تحت الصوبيا» في غرفة النظارة حيث يجتمع الأساتذة. وبدل النقل يصبح أساسياً على ضآلة قيمته، إذا ما علمنا أن المعاش كله يبلغ 570 ألف ليرة لبنانية. لذلك، بدا الأستاذ يوسف في أقصى درجات اليأس حين فوجئ بزوجته تطرق باب الصف قبل انتهاء حصته، لتسأله «كيف بدنا نجيب كيس طحين، ما عاد عنا ولا رغيف بالبيت والطريق مقطوعة»! يقول الأستاذ يوسف إنه يومها لم يكن يملك المال الكافي لشراء لا الطحين ولا من يحزنون، لا بل إنه كان قد استنفد أبواب الاستدانة بعدما فاقت «لائحة الديون المعاش الذي كنت أتقاضاه». في ذلك العام، كان قد مر على تثبيت يوسف في مهنة التعليم 9 سنوات، وهي بالضبط المدة التي كان قد استغرقها ليشعر باليأس من هذه المهنة. يتذكر يوسف أنّه «سنة 1996 كانت آخر مرة بمسك فيها المعاش بإيدي».. وبعد هذا التاريخ، كان كل ما يبقى له من الراتب «حق الغدا وشي 50 ألف كنت أوفرها بدلاً من أن أسدد بها ديون أحد ما كنت قد استدنت منه». وما زاد الطين بلة، ولادة ابنه الثاني أحمد، الذي وُلدت معه «أعباء كبيرة تبدأ بتأمين مؤونة الشتاء ومصاريف الأولاد ولا تنتهي بأقساط المدرسة». اللحظة الوحيدة التي كان يوسف يتنهد فيها ارتياحاً، و«التي لم تعد واردة اليوم مع عيلة من 5 شباب»، كانت عندما «أتقاضى بدل المراقبة والتصحيح في الامتحانات الرسمية». أما أيام «الجنون» في مهنة التعليم، فهي «29 يوماً من أصل 30 بالشهر»، حيث يبدأ «النق» منذ اليوم الأوّل، وتحديداً «عندما أعود إلى منزلي بما بقي من راتب يكفل توزيعه على الضروريات، بتوتير الأجواء مع العائلة 5 أيّام متتالية، إلى أن ينفد آخر ألف». حاول يوسف كثيراً تحسين وضعه من خلال تأمين عمل ثانٍ عقب الانتهاء من الدوام المدرسي، وفي الإجازة الصيفيّة. يقول «كنت أَضمَن قطعة أرض، وأزرعها بالشتوية دخان وبالصيف مقتى (قثاء)». لكن، حتى هذا الدخل الإضافي لم يكن يسعفه في سد حاجات عائلته المتزايدة يوماً بعد يوم، ولا في سد الديون التي تراكمت حتى وصلت اليوم إلى حدود 27 مليون ليرة لبنانية! وأمام هذا الواقع، حمل المدرس عائلته وانتقل بها إلى المركز، العاصمة، بيروت. هنا، ومع أنه عمل في إحدى المدارس بدوامين، لا بل إنه تمكن من تأمين عمل لولديه، إلا أن الوضع ازداد سوءاً. ذلك أن انتقال الشباب إلى مجتمع آخر استهلاكي بامتياز، زاد طلبات الأولاد، وكان عليه تأمينها من أجل «مسايرة وضع الجيران المعيشي». لكن، مسايرة الجيران كان من شأنه استيلاد «لائحة جديدة من الديون مؤلفة من دفعات يومية تتجاوز 25 ألف ليرة بدل مواصلات للأولاد، وأخرى شهرية دائمة: 354 ألف ليرة قسط بنك و300 ألف إيجار بيت و100 ألف للكهرباء و100 ألف للإنترنت و300 ألف للدكان، ودفعات سنوية كأقساط الجامعات». لذلك، تراه يستدرك خلال شرحه، فيتوقف ناظراً إليك وهو يقول بسخرية إنه ربما سيمضي ما بقي له من العمر منتعلاً «هالمشاية اللي عمرها أكثر من 6 سنين».


أحلى من الشحادة

دخل يوسف مهنة التعليم في عمر السابعة عشرة. يومها، أغرته كلمة «معلم». ويتذكر أنه عندما كان يمشي في شوارع الضيعة، كانت «البنات تتطلع علي، وإسمعهن يقولوا نيال أهلك عليك». لم يكن راتبه في حينها يتجاوز 200 ليرة، وبالكاد كان يكفيه لتأمين مصاريفه وجزء من مصاريف المنزل، ولكنه كان فرحاً بالمهنة التي اختارها دون سواها. لكن، بعد انتشار هذه المهنة كثيراً بين الشباب، بدأت تتراجع «رهجتها»، وبدأ يوسف يشعر معها بأنه اختار «المهنة الغلط». ويزيد هذا الشعور سوءاً عندما كان يسأله أحدهم «شو بتشتغل؟»، وعندما يجيب «أستاذ»، يأتيه التعليق «إيه، معليش يا أهلي، أحلى من الشحادة». وما يزيد الطين بلة، «تعليق الأقربين»، وخصوصاً زوجته التي «كل ما دقّ الكوز بالجرة، تعيرني بأم علي وزوجها العسكري اللي ولا مرة اجا على بيته وايده فاضية».