قد تُحيِّرنا امرأة إذ تغرق في الكآبة والحزن بعد أن تضع مولوداً، يختلف سلوكها عن الصورة المثالية للأم الجديدة. نتذكّر حينها ما قرأناه أو سمعناه عن اكتئاب ما بعد الولادة. هنا محاولة للإضاءة على أسباب هذا الاكتئاب من الناحيتين البيولوجية والنفسية
حلا ماضي
تذكر هبة الحالة الغريبة التي غرقت فيها شقيقتها يارا بعد ولادة طفلها الأول، كانت تبكي لأي حدث، تبكي إذا بكى ابنها، أو إذا رفع أحدهم صوت التلفزيون بطريقة لافتة، تتصل بشقيقتها أو قريبة أخرى لتأتي إليها، تروي هبة أن يارا طلبت منها ذات أن تأتيها بسرعة ببيجاما للطفل، وحين وصلت إلى بيت شقيقتها فوجئت بأن الصبي عنده أكثر من بيجاما، وفوجئت بيارا تبكي.
مونيك هي إحدى جارات يارا، هي أيضاً عاشت تغييرات بعد الولادة، فاستسلمت لمدّة شهرين لساعات طويلة من النوم، لم تهتمّ خلالهما بابنها في تلك الفترة إلّا نادراً، تركته لأمها وزوجها، وقد شعرت بأن حياتها كلها في تلك الفترة كانت أشبه بنوم طويل وعميق جداً...
لم تطرح هبة ويارا الأسئلة عن حالتيهما، المحيطون بهما استشعروا بـ«خطر»، وبعد مراجعة الأطباء المختصين تنبّهوا إلى أن المرأتين تعانيان اضطراب مرحلة ما بعد الولادة.
رغم انشغال سهى بالتحضير للولادة واستقبال المولود الجديد، كان هاجس المحافظة على شكلها الخارجي بعد الحمل همّها الأساسي، وكل زيارة إلى الطبيب النسائي كانت تقابلها زيارة عند اختصاصية التغذية! تقول «بعدما وضعت مولودي كنت أشعر بالراحة للحظات ثم لا ألبث أن أنفجر بالبكاء في لحظات تالية دون سبب واضح، أصبحت شديدة الحساسية، كثيرة القلق أحياناً على الطفل، وغير مبالية تجاهه أحياناً أخرى. أشعر دائماً بالإرهاق وعدم القدرة على النوم لساعات طويلة، وعندما أنام أستيقظ متعبة، والأغرب من ذلك، أنني أخفي نفسي عن زوجي أو أحاول ارتداء ثياب فضفاضة حتى لا أبدو سمينة!».
ما تحدثت عنه سهى، يفسره الطبيب الاختصاصي في الجراحة النسائية الدكتور فيصل القاق بأنه نوع من الاضطرابات الطبيعية التي تصيب الأمهات بعد الولادة، وهي أحد أنواع الاكتئاب الخفيف الذي يصيب النساء خلال الأيام الأولى لوضع الجنين، وقد تستمر مدة ثلاثة أسابيع، السبب في ذلك هو الانخفاض الدراماتيكي للهرمونين الأنثويين الاستروجين والبروجسترون. ويضيف القاق: «إن صدمة الولادة نفسها وما تسببه من آلام للمرأة خلال الوضع تسهم في حدوث تلك الاضطرابات».
الدكتورة بهاء يحيى، أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية، ترى أن هذا النوع من الاضطرابات يعكس حقيقة ما لحق بحياة المرأة من تغيير خلال مرحلة الحمل وبعد خروج الجنين من رحمها. رغم سعادة المرأة بولادة طفلها، إلّا أن الإحساس بالمسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقها، وبأن حياتها قد اختلفت من جوانب شتى، وغيرها من الأحاسيس والتفاعلات النفسية والاجتماعية مع مَن حولها في محيط الأسرة وخارجها، كلها عوامل تؤدي إلى تبدل أو اختلاط إحساس الفرح بمزيج من الخوف والأسى والكآبة، وبالتالي الخوف من التغييرات الجسدية التي قد تغيّر جمال المرأة وتناسق قوامها، ما قد ينشأ عنه فقدان الثقة بالنفس وبالأنوثة والجاذبية.
لماذا لا تهتم بعض النسوة في هذه الحالة بمولودهن؟ هنا تشير يحيى إلى أن بعض الأمهات «يقعن في حب أطفالهن من النظرة الأولى، وأخريات يتعلمن ذلك تدريجياً».
لينا أم لابنتين، استسلمت لإصرار زوجها على إنجاب طفل ثالث «لعله يكون صبياً»، ولكن لينا أحست بصدمة كبيرة حين وضعت ابنة ثالثة، وحزنت حزناً كبيراً تلاشت معه قوتها على القيام بأي عمل، وتقول «صرت أفتعل المشاكل لأطلق العنان لصراخي وبكائي، وأغضب من طفلتي الصغيرة إذا بكت، فلم أعتن بها، وكنت أتركها أحياناً لساعات دون طعام ولا أبدّل ملابسها. لقد كرهت عائلتي حينها»، وتتذكّر لينا أنها لم تستقبل جيرانها في تلك الفترة.
يلفت القاق إلى أن ما عانته لينا هو عبارة عن اضطراب في المزاج نتيجة انخفاض نسبة الإندوفين انخفاضاً حاداً، وقد تؤدي تلك العوارض إلى نوبات من الذعر والرغبة في إيذاء الطفل، ويصاحب ذلك الإحساس توتر وقلق لدرجة أنّ بعض النساء يفقدن القدرة على الاعتناء والاهتمام بأنفسهن أو بأطفالهن.
من ناحيتها، تؤكد يحيى أن هذا النوع من الاكتئاب يتمثّل في التفكير السلبي والإحساس بالخيبة وفقدان المتعة بالأشياء والأمور المحبّبة إليها من قبل، فالمرأة تشعر هنا بتأنيب الضمير لأسباب غير واقعية، هذا إضافة إلى تراكم التعب والإرهاق بعد الولادتين السابقتين وتعاظم المسؤوليات.
هدى، امرأة تعشق السهر والنزهات مع الأصحاب، فقد ارتبطت بزوجها بعد قصة حب طويلة. وتقول «حين أنجبت طفلي الأول بعد سنوات من الزواج تحوّل زوجي إلى مهووس به، ولم يعد يوليني الأهمية كما كان في السابق. ابتعدت عن أصدقائي وكرهتُ طفلي حينها، لأنني شعرتُ بأنه «مسؤول» عن تدمير حياتي»، هدى المنعزلة ذهبت إلى حد أن ضربت رأسها بجدران المنزل ما استدعى نقلها إلى المستشفى.
يرى القاق أن ذلك التصرف هو أقسى درجات الاكتئاب، وقد يصل أحياناً إلى الإيذاء الحقيقي للطفل والأم على حد سواء، مشيراً إلى أن تلك المرحلة من الاضطرابات هي أزمة صحية تستدعي التدخل الطبي لتقديم العلاج الفوري للأم.
في هذا السياق، ترى يحيى أن التغييرات الاجتماعية التي تطرأ على الحياة الزوجية تمثّل عبئاً على المرأة التي تشعر بالانعزال عن الآخرين، وانعدام الحياة الاجتماعية النشيطة، يفرض الطفل الجديد قيوداً على الحياة الزوجية، ويمنع والديه من قضاء الوقت معاً كما كانا في السابق، «وهذا الحرمان» يسيطر على المرأة فيسهم في زيادة الاكتئاب عندها.


الهرمونات ومشاكل أخرى


يشير القاق إلى أنه لا يمكن تحديد النساء المعرّضات للإصابة باكتئاب ما بعد الوضع من خلال مستوى الهرمونات فقط، ولكن يمكن الإشارة إلى فئات من النساء أكثر عرضة للاضطرابات كاللواتي عانين مرضاً بعد حمل سابق، أو اللواتي عانين ولادة عسيرة، وهناك النساء اللواتي تابعن قريبات أصبن باكتئاب ما بعد الولادة، هذا إضافةً إلى النساء اللواتي يعانين مشاكل زوجية أو مادية أو عائلية.