منهال الأمين
«أرى الله عندما أكفكف دمعة، وأخدم محتاجاً». هكذا، يكون الدخول إلى عالم رباب الصدر للوهلة الأولى سهلاً، يشجِّع على فتح صناديق مغلقة. إلّا أنّ الغوص فيه مسألة معقَّدة. السيدة التي لا تؤمن بالتقاعد، تتقن السير بين حقول الألغام اللبنانية بحثاً عن الورود. تجيد بامتياز فنّ الدبلوماسية، قاطعة الطريق ـــــ بتحفظ ـــــ على كثير من الأسئلة لدى محاوريها. ليس ذلك طلباً «للسترة»، بل اقتداء بنهج خطّه لها الشقيق المغيّب، الإمام موسى الصدر، منذ نصف قرن، حين أوكل إليها قيادة «الجناح» النسائي في حركته اللبنانية التي انطلقت بعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1959.
حينئذ، غادر الإمام مسقط رأسه، قم الإيرانية، إلى أرض الأجداد، واستقرّ في صور. اصطحب معه أخته رباب التي تولّى رعايتها بعد وفاة والدهما السيد صدر الدين، وهي ابنة 8 سنوات، فكانت علاقتها به «خاصة جداً». مثّلت رباب مشروعاً للسيد الذي دفع بشقيقته، ابنة العائلة الدينية العريقة، إلى ساحة العمل العام، ضمن مشروعه لاستنهاض المرأة الجنوبية. أراد أن يؤكد للآخرين أنّه «وعائلته في المقدمة لا ينظّرون على الناس»، وأن يخاطب المترددين والمترددات: انظروا رباب، محجبة ومتزوجة وحامل وتنزل إلى العمل.
في عام 1963، أسس الصدر «بيت الفتاة» الذي ضمّ حينها عشر طالبات فقط، وعهد به إلى رباب. «كان هناك تلميذات أكبر مني. كنت المعلمة والمديرة والمحاسبة، أشارك في تنظيف المكان، ثم أقلّ الطالبات بسيارتي إلى منازلهنّ».
كان النشاط النسائي يومذاك شبه معدوم في الجنوب الواقع ضحيّة إهمال سياسي واجتماعي من جهة، واعتداءات إسرائيلية من جهة أخرى. تقول رباب: «اخترنا الجنوب لأنه الأكثر حرماناً. بدأ الأهالي يتشجعون فيرسلون بناتهم إلى المعهد بضمانة أن السيد هو صاحب المشروع وأخته مديرته». ورغم أن السيد كان يرعى المؤسسة الفتيّة لحظة بلحظة، فإن الطريق لم تكن معبّدة بالورود. «كانت تواجهنا مشاكل وعراقيل في الدوائر الحكومية، وتضييق من النفوذ السياسي، ومشاكل بين الطلاب تبعاً لولاءاتهم السياسية».
تقول إنها تعزف «سيمفونية خدمة الإنسان» منذ عشرات السنين ولم تتعب. والعاملون معها «أوركسترا على أفرادها أن يبدعوا وإلا ظهر النشاز». هكذا، حرصت «الستّ» على تطوير الجهاز الإداري، إدارياً وفنياً، من خلال الدورات المتخصصة في لبنان وإيطاليا، وعبر المشاركة الفاعلة في مؤتمرات عربية ودولية.
لم تترك المؤسسة باباً للعمل الإنساني والتنموي لم تطرقه: الخياطة والتدبير المنزلي والإسعافات ورعاية الطفل والأشغال اليدوية والتمريض والإدارة التربوية. أما مكافحة الأميّة، فتعدّها الصدر من إنجازات المؤسسة «الهائلة». وتتحدث بشغف عن الطالبات اللواتي تمكّنّ من متابعة التحصيل العلمي «ومنهن المهندسة والشاعرة والرسّامة، إضافةً إلى عشرات ربات المنازل اللواتي تغيرت حياتهن بفضل هذا البرنامج».
اضطرت المؤسسة إلى النزوح من الجنوب عام 1978، بسبب الاجتياح الإسرائيلي والوضع المضطرب أمنياً و«سياسياً»، واستقرَّت في مدينة الزهراء بخلدة. بعد أشهر قليلة، سافر الإمام موسى الصدر منطلقاً من منزل رباب إلى ليبيا، وقال لها إنّه ينوي الغياب أياماً قليلة و«لكنني قد أمدِّد كالعادة». ولم يكن يعلم بأنه سيفعل ـــــ مكرهاً طبعاً ـــــ لثلاثين عاماً وأكثر. تقول رباب عن تلك المرحلة: «عشت أشهراً من الضياع. شعرت بأن كلَّ شيء انتهى». لكن، حين كاد المشروع ـــــ الحلم يتوزّع يمنة ويسرة سألت نفسها: «إذا أصيب شخص بمصيبة، فهل يترك الصلاة؟ نحن عملنا مثل الصلاة وعلينا أن نكمل». تشعر بالامتنان لمن تسميهم «أصدقاء الإمام» الذين وقفوا إلى جانبها. لم تكن الانطلاقة الثانية سهلة، إذ استقبلت المؤسسة التي حملت اسم الإمام الصدر فيما بعد، عدداً كبيراً من الأيتام، وخصوصاً مع ارتفاع عددهم نتيجة العدوان الإسرائيلي. «مرَّت علينا أيام عصيبة، لم نكن نملك ثمن دواء أو خبز لنطعم هؤلاء الأطفال». حفّزَها هذا الوضع على التوجّه إلى بلاد الاغتراب لجمع التبرعات، وحصلت على أذونات من المراجع لأخذ الحقوق الشرعية. «كنت أواجه مشكلة أنني لست الإمام الصدر بل شقيقته. كانت تنقصني التجربة، وأقف أمام تحدي إثبات الوجود». تردُّ الصدر صمودها وثباتها إلى انتمائها الذي يمدُّها بالقوة والإيمان بالله، «وتعلقي بأهل بيت الرسول، قدوتنا الحسنة في السراء والضراء».
أوائل الثمانينات، حاولت أن تجمع بين السياسة والعمل الاجتماعي، فانضمَّت إلى هيئة رئاسة حركة أمل، حتى تواصل «مسيرة الإمام مع رفاقه». إلّا أنّها لم تنسجم مع السياسة. شعرت بأن إنتاجها سيتوقّف، فاستقالت. رفضت التوزير 8 مرات، لأنها لن تسكت على سلوك «بعض السياسيين الذين لا يخدم نهجهم البلد»، فهم يرون أنفسهم أولاً ولبنان ثانياً «وأنا أرى العكس تماماً». رغبت في أن تعمل دائماً لله ويبقى ضميرها حياً. لا تقفل بابها وهاتفها في وجه أحد، ولا تسعى إلى منافع شخصية، وهذا ما تثبته تجربتها في «نكران الذات طيلة نصف قرن، فلماذا الوزارة إذاً؟». كذلك فعلت حين عرضَ عليها الرئيس الراحل إلياس الهراوي مقعداً نيابياً في تعيينات ما بعد الطائف، وقالت له: «اطلبني لعمل خيري في منتصف الليل في جونيه أو الأشرفية أو أي مكان ستجدني حاضرة». ما زالت ترفض حتى الساعة العمل السياسي، كي لا تحرمها المواقع التواصلَ مع الأيتام والأهالي. «أرى الله في خدمة الناس والسياسة ستحرمني هذه الرؤية». تحرص على البقاء على «مسافة واحدة من الجميع». تنظر بفخر إلى «الوحدة داخل الطائفة الشيعية» وتعدُّها «نصراً كبيراً» وترى أن «إنجازاتها أعطت آمالاً للمستقبل»، وحقَّقت كثيراً من أهداف الإمام الصدر «وإذا استمروا هكذا فسيتحقّق ما بقي منها».
لم تبرد قضية الإمام الصدر في قلب رباب والعائلة. يقينها بأنه حي يرزق، تتولد من مزيج من العاطفة والمنطق و«المعلومات». «جهات رسمية عربية وغير عربية محطُّ ثقة أكدت أنه محكوم بالسجن المؤبد في ليبيا. هناك قرار عالمي وراء إخفائه، بتوصيات عربية وغير عربية». وبما أنّ الأرض كانت خصبة للفتن يومها «حرصت العائلة على عدم اتخاذ أي موقف سلبي يحقق رغبة المنفذين». تأسف رباب الصدر لأن «الدولة كانت في أضعف أيامها، حين داسها الجميع في حرب طائفية بغيضة». تتهم «الجميع بالإهمال والتقصير» في لبنان والدول العربية وحتى إيران: «فلو أن الإمام الخميني حيّ لما كان سيسكت». لم تنقطع رباب عن إيران، تحتفظ لها بمكان خاص في نفسها، وكذا في لهجتها وحجابها وأدبياتها. تدعم في السياسة الرئيس محمد خاتمي «بسبب انفتاحه وإصلاحاته الداخلية». تفتخر بأنها خدمت لبنان «أكثر من كثيرين ولدوا فيه». لها من البنين 4، وحين تُسأل عن البنات لا تتردد في القول: «كتار... كلهن بناتي».


5 تواريخ

1944
الولادة في قم (إيران)

1962
تولّت إدارة «بيت الفتاة» وتزوجت في العام نفسه الأديب حسين شرف الدين الذي «كان سنداً حقيقياً في كل المفاصل»

1978
تغييب الإمام موسى الصدر خلال زيارة إلى ليبيا، أحدث تحولاً كبيراً في حياتها

1993
منحها الرئيس الراحل إلياس الهراوي وسام الأرز الوطني من رتبة فارس

2009
تهيّئ لشهادة الدكتوراه في كلية الآداب ــــ قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية، هي الحاملة دكتوراه فخرية من الجامعة اللبنانية الأميركية