نهلة الشهالهي مناسبة سنوية تبدو كأنها للمراجعة أو التقييم. إلا أن ما يجري فعلياً من احتفالات وندوات أو تغطية إعلامية، مغرق في طقوس شكليّة رتيبة، كمن يقْدم على واجب إحياء الذكرى السنوية لحدث ما! وفي أحوال أخرى، تستعاد الأرقام، مسجّلة الفارق بين مساهمة النساء في الإنتاج وحصّتهنّ منه (فارق فظيع!)، أو ضعف حضورهنّ في مواقع القرار، بدءاً من المجالس البلدية فما فوق، أو تفاوت أجورهنّ بالمقارنة مع الذكور لعمل مشابه وكفاءات متساوية، أو استمرار العنف بكلّ أشكاله يقع خصوصاً عليهن، وأوّله العنف في الإطار العائلي، وأبشع مظاهره «جرائم الشرف» (وهي لا تختصر مجمل الواقع)، أو زواج الصغيرات، والزواج القسري، أو استمرار معاملة النساء كقاصرات قانوناً رغم النصوص التي تعترف لهن بالمساواة، أو بالمقابل استمرار حرمانهن القانوني من بعض الحقوق...
في العام الفائت، أراد السيد محمد حسين فضل الله تسجيل مساهمته في المناسبة، فأصدر فتواه الشهيرة بتجريم «جرائم الشرف» بصورة مضاعفة، وفتوى أخرى بجواز دفاع المرأة عن نفسها بالعنف بمواجهة العنف. قامت بعض الدنيا عليه، ولكن التفاعل مع دلالات تلك الفتاوى بقي ضعيفاً، وجرى استيعابها في سجالات لا علاقة لها بالموضوع الذي تثيره. علماً بأن ما يطرحه الواقع من معطيات يتطلّب مقاربة شاملة لحجة الاختباء خلف الشرع الإسلامي أو الدين لتبرير العديد من تلك الآفات، ولتبرير سواها من التدابير «الشرعية» التي تنتمي إلى قراءة جامدة وانتقائية للنص القرآني. قراءة يحكمها في نهاية المطاف عقل القارئين ورغباتهم ومصالحهم، وهم بشر، بينما تأويله على أساس العصر يمثّل، ليس ضرورة موضوعية فحسب، بل الشكل الأكثر وفاء لغاياته وروحه هو نفسه، كما تؤكد دراسات مضادة للسائد، تولاها علماء أجلاء آخرهم الأستاذ جمال البنا. فهل ما زال ممكناً مثلاً تجاهل خاصية خطيرة في النص القرآني، تمثّل كل الفرق، هي غياب تحميل الخطيئة الأولى، الأصلية، لحوّاء، ما يمثّل المهد الميثولوجي لاضطهاد المرأة ابنة حوّاء تلك. بل بالضد من ذلك، التأكيد على المساواة في المسؤولية كما تعبّر عنها «وأزلهما الشيطان»!
على أية حال، أقيمت في المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها حلقات نقاش نسوية إسلامية تثير موضوعات لم تعد تقبل التجاهل، كمسألة الحاجة إلى إقرار تساوي النساء والرجال في الميراث، على أساس واقع مساهمة النساء الفعلية في المدخول اليومي للأسرة وانتهاء المسؤولية الذكورية عنهن لجهة الإعالة. وهناك بالطبع مسألة تحريم تعدد الزوجات، استناداً إلى «ولن تعدلوا»، وهي بقية الآية التي يعرف الجميع بدايتها ويردّده عن ظهر قلب! أو الحق في طلب الطلاق، إذ بعد نضالات شرسة، أُقرّ حقّ الخلع في بعض البلدان العربية، وهو تسوية معيبة بالنظر إلى واقع حضور النساء في الحياة العامة، ولكنه اعتبر تقدّماً بالمقارنة مع الوضعية القروسطية السابقة. هناك بالطبع قائمة بالمسائل، فتلك المذكورة هنا ليست سوى أمثلة.
ها قد سُجِّلت الجملة الأساسية: واقع حضور النساء في الحياة العامة. غالباً ما تُترجم هذه الجملة بطريقة عجيبة، فتصبح مرادفاً لإحصاء مملّ لعدد النائبات أو الوزيرات. يستنتج الرافضون أن النساء لا ينجحن في الحقل العام، بدلالة عدم فوزهن في الانتخابات، وامتناع النساء أنفسهن عن التصويت للمرشحات. ويستنتج المؤيدون أن هناك حاجة لـ«تمكين النساء» بواسطة التمييز الإيجابي بحقهن، تجاوزاً لقرون من الاضطهاد، وتسريعاً لتحقيق المساواة. وعلى صحة القَوْلين معاً، ومن دون تناقض، حيث هما يعبّران عن معطيات موضوعية، فإن القلق على «مكانة النساء في الحقل العام» مزوّر تماماً: فالنساء موجودات في الحقل العام، وبقوة! تاريخياً، وتقليدياً، وفي المجال الحديث للتعليم والعمل على السواء. ولكن الغائب هو تأويل هذا الحضور المتعدد الأشكال والمستويات. وبالأخص من جانبهنّ. وكمثال، فهل جرى الانكباب كفاية على الدور الحاسم الذي لعبته النساء الفلسطينيات، الكتلة العامة للنساء العاديات، لا المثقفات ولا بنات النخب، في أعقاب نكبة 1948، حين اقتلع مجتمع بأكمله بعنف وسرعة منقطعي النظير. هناك توافق على دور النساء كحافظات للذاكرة. ولكن دورهن آنذاك يتجاوز هذه الوظيفة بكثير: فقد حافظن على تماسك النسيج الاجتماعي نفسه، وحمينه، واستمررن في أداء هذا الدور في مخيمات اللجوء.
وما هو تأويل المكانة الاجتماعية للنساء العراقيات خلال الحرب المجنونة بين بلادهن وإيران، ثم خلال سنوات الحصار... ويمكن إيراد أمثلة أخرى لا تعد ولا تحصى.
فبمناسبة يوم المرأة العالمي: تحية القلب تذهب لأولئك. هن يعرفن، من دون شك يخالط تلك المعرفة، مكانتهن الاجتماعية والدور الخطير الذي لم يتوقفن يوماً عن تأديته. هذا إدراك أول يمثّل منطلقاً... وهو، بعكس ما يظن، لا يمنع إدراك أن المهمة الباقية بعد ذلك، هائلة!