strong>ناهض حتر *في سلوك غير معهود من المعارضين الأردنيين، قام القيادي الإخواني، إرحيل الغرايبة، بعرض مشروع الملكية الدستورية في ندوة «أكاديمية» في واشنطن، وناقشها مع بعض المسؤولين الأميركيين (من مستويات متدنية، ولكن مقبولة في إطار اتصال أوليّ). وأعلن رئيس الوزراء، صراحة، أن الإدارة الأميركية الجديدة تمارس ضغوطاً قوية على المسؤولين الأردنيين ـــــ ربطاً بالمساعدات ـــــ للشروع في إصلاحات سياسية. ولم يخفِ الذهبي أن الأردن سيستجيب لتلك الضغوط، وسيشرع فعلاً في إصلاحات سياسية، ولو محدودة.
مشروع الملكية الدستورية في الأردن قديم. وقد طرح للمرة الأولى في انتفاضة 1989 الديموقراطية، بمبادرة شعبية أصيلة، لكن من دون أن يتسنّى له التحوّل إلى هدف على جدول الأعمال. الآن، يروّج الإسلاميون للمشروع ـــــ الذي كثيراً ما تجاهلوه ــــــ في سياق آخر، نشأ مع المتغيّرات الدولية والإقليمية. فبين حاجة إدارة الرئيس الأميركي إلى تحقيق تسويات في الشرق الأوسط، وبين اتجاه السياسة الإسرائيلية نحو اليمين المتطرف، يمكن الملكية الدستورية الأردنية أن تكون اختراقاً مزدوجاً: 1ــ قيام نظام ديموقراطي جديد في المنطقة. 2ــ إنجاز حلّ جزئي، ولكنه رئيسي، لقضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال الدمج السياسي لقسم كبير منهم في الديموقراطية الأردنية الوليدة.
في 17 نيسان المقبل، يكون قد مرّ عقدان كاملان على الانتفاضة الشعبية الديموقراطية في الأردن. لم تكن تلك الانتفاضة ـــــ التي انتظمت فيها أغلبية القوى الاجتماعية الأردنية في كل أنحاء البلاد ـــــ مجرد صرخة مفقَرين محتجين على سياسات اقتصادية مجحفة، بل انتفاضة مجتمع يريد بلورة شخصيته وكيانه وتنظيم دولة ديموقراطية قادرة على استيعاب مستوى واحتياجات التقدم الأردني.
ومن عاش زخم تلك الانتفاضة مثلي، واطّلع على أدبياتها، يُدهَش لما آلت إليه لاحقاً. كانت الميول الديموقراطية الثورية تجتاح الشارع الأردني، وتتطلع إلى ملكية دستورية على النمط الغربي وإلى حكومة شعبية. كان تلك ثورة ديموقراطية تعثرت ثم تجمدت، ثم تعفّنت على مدار العقدين اللاحقين.
ومن أجل فهم الإشكالية التي نطرحها هنا، علينا أن نلاحظ الآتي:
1ــ أن الملك حسين، كان بإلحاحه على تحديث البلاد بصورة عاصفة في السبعينيات والثمانينيات، وراء نشوء النزعة الديموقراطية الأردنية، وقد قرّر حينها تلافي المجابهة مع الانتفاضة، واستيعابها، متّخذاً، بسرعة ووضوح، إجراءات الانتقال من عهد الأحكام العرفية الطويل إلى وضع دستوري قانوني أتاح الحريات والانتخابات العامة واستيعاب عدد متزايد من المثقفين الأردنيين والفعاليات وممثلي العشائر في الحكومات والإدارة. ومن هذه الناحية بالتحديد، يمكننا القول إن انتفاضة 89 نجحت في تغيير الحياة السياسية ومنح الفرص للنخب المستبعدَة سابقاً. وقد حرمت هذه الآلية الحركة الشعبية معظم قادتها السياسيين.
2ــ إنّ انتفاضة 89 جاءت ـــــ ولم يكن ذلك مصادفة ـــــ بعد قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية. وهو قرار أدّى إلى وضع مهمة الإصلاح الداخلي على رأس جدول الأعمال، لكنه أسهم في دفع الكتلة الفلسطينية ــــــ الأردنية، وبصورة شبه جماعية، إلى الإحجام عن المشاركة في الانتفاضة الديموقراطية. وقد منح ذلك الحركة الشعبية الديموقراطية هوية شرق أردنية بامتياز، وهمّش موضوعياً المشاركة الفلسطينية في الحياة السياسية. وبتكرار هذا الإحجام في التحركات الديموقراطية والاجتماعية اللاحقة (وخصوصاً انتفاضة 1996)، وضع الفلسطينيون أنفسهم خارج السياق السياسي الداخلي الأردني. وقد شهدنا، خلال العقدين الفائتين، تقلّص المشاركة الفلسطينية في الحكومة والإدارة، بل أصبح واضحاً أن تلك المشاركة يضمنها القصر، ولا تعبّر عن توازن داخلي واقعي.
لقد تغيرت الكتلة الفلسطينية ـــــ الأردنية من دينامو ثوري في البلاد، إلى جالية يرتبط الحفاظ على مصالحها ودورها بالقصر. وأبرز العوامل التي أدت إلى هذا التحوّل هي: أــ تلاشي الشرعية السياسية ـــــ لا القانونية ـــــ للمواطنة، بعد قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية التي كان وجودها في إطار المملكة يمنح الفلسطينيين ـــــ الأردنيين، مواطنة أصيلة من الناحية السياسية ومشاركة تفرضها شروط الوحدة. ب ــ عودة نحو نصف مليون فلسطيني ـــــ أردني من الكويت سنة 90 / 91، ما غيّر البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية لفلسطينيي الأردن باتجاه اليمين. ج ــ اتفاقيات أوسلو 1993 التي حولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة متعاونة مع واشنطن وتل أبيب، وحطمت الحركة الوطنية الفلسطينية، وقادت انقلاباً ثقافياً بين الفلسطينيين عموماً نحو الليبرالية والبراغماتية والحلول الفردية.
3ــ الظاهرة الأبرز في انتفاضة 89 هي أنّ الإسلاميين الأردنيين لم يشاركوا على أي مستوى في فعالياتها. وهي ظاهرة تكرست على مدار العقدين اللاحقين، حين امتنع الإسلاميون عن تقديم أي دعم لأية تحركات شعبية ذات طابع اجتماعي أو ديموقراطي، بل أعلنوا صراحةً في لحظات التأزم الداخلي وقوفهم إلى جانب النظام في مواجهة الحركة الشعبية، كما حدث في انتفاضة 1996، حين هدّد الإخوان بـ«قطع أيدي» مَن يحاول نقل الانتفاضة من المحافظات إلى العاصمة عمان. في المقابل، تصدّر الإسلاميون دائماً التحركات التضامنية مع فلسطين والعراق والسودان... مؤكدين أنهم قوة إقليمية بالدرجة الأولى، غير معنية بالشأن الداخلي إلا بالقدر الذي يضمن لهم حرية التنظيم والحركة.
إن إغراق الحركة الشعبية الديموقراطية بالتحركات التضامنية الضخمة المفرغة من المحتوى السياسي الداخلي، أدى بدوره، إلى إضعاف التراكم الديموقراطي الثوري. وفي المقابل، كرست هذه السياسة الإخوان المسلمين ممثلاً للكتلة الفلسطينية ـــــ الأردنية، وناطقاً فعلياً باسمها. وهو ما وفّر لهم قوة تصويتية هائلة في الانتخابات العامة والبلدية والنقابات المهنية والاتحادات الطالبية في المناطق ذات الغالبية الفلسطينية. وبالنظر إلى هذه القوة التصويتية، يأمل الإخوان المسلمون أن تمكّنهم الملكية الدستورية من الوصول إلى السلطة في الأردن، بوسائل ديموقراطية، وبدعم من الولايات المتحدة.
ويقرن القادة الإسلاميون المبادرون إلى تفعيل شعار الملكية الدستورية، الانتقال إلى حكومة منتخبة كاملة الصلاحيات، بالتأكيد على حق العودة للاجئين ورفض الوطن البديل. غير أن هذه اللعبة اللفظية لا تصمد أمام النقد؛ فالملكية الدستورية مطروحة للتحقق، بالطبع، قبل تنفيذ حق العودة. ومن الواضح أن ربطها الفعلي بتنفيذ ذلك الحق، يحولها من مهمة راهنة إلى تصوّر مستقبلي. ثمّ إن أي حل لهذه المعضلة، يؤدي إلى استثناء الفلسطينيين ـــــ الأردنيين من الانتخاب أو تحجيم تأثيرهم التصويتي ــــــ كما هي الحال الآن ـــــ لن يكون مقبولاً من جانب الإسلاميين الذين لن يحصلوا في ملكية دستورية شرق أردنية على أكثر من 5 في المئة من الأصوات (و15 في المئة لليسار والقوميين ــــــ بسبب الكوتا المسيحية ــــــ وأغلبية ساحقة للعشائر والبيروقراطية المدنية والعسكرية). هكذا، لا يمكن فصل الملكية الدستورية، بالنسبة إلى الإسلاميين عن قاعدتهم التصويتية الفلسطينية الطابع، وبالتالي لا يمكن فصلها عن التوطين السياسي للاجئين. وتمثل هذه الحقيقة أرضية خصبة للتفاهم مع واشنطن على هدف الملكية الدستورية. كما أنّ تنفيذ إجراءات داخلية لإعادة تنظيم المواطنة في الأردن على أساس استثناء الفلسطينيين، سوف يطرح فوراً زيادة الحصة السياسية للمسيحيين الذين يمثّلون نحو 20 في المئة من الشرق أردنيين (مقابل 6 في المئة من الأردنيين الحاليين من كل الأصول)، وهو ما سيضعف قوة الإخوان المسلمين الأردنيين بصورة جوهرية، لمصلحة القوى
العلمانية.
لم تعد الملكية الدستورية في الأردن مجرد شعار أو وجهة نظر، بل ضرورة لا مناص منها لضمان كيان البلد وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. يحتاج الأردن إلى ثورة ديموقراطية تضمن له اختراقاً تنموياً ممكناً بالفعل، لكن هذه الثورة اصطدمت، ولا تزال، بالتكوين الديموغرافي المعقد للبلد، وهو الناشئ عن ملابسات العلاقة مع فلسطين والقضية الفلسطينية، ما يهدد بتحوّل الثورة الديموقراطية الأردنية من دينامية وطنية تنموية شعبية إلى ثورة برتقالية تأتي في سياق خدمة السياسات الأميركية والإسرائيلية، دولياً وإقليمياً، وتعزز، في الداخل، نفوذ ومصالح الرأسمالية الليبرالية التي لا يعارضها الإخوان المسلمون إلا في الجانب الثقافي، دون الاقتصادي أو الاجتماعي. وهو، في الأخير، نزاع ثانوي يمكن تسويته بتشريع اللبرلة الاقتصادية مقابل تحريم اللبرلة الثقافية.
إنّ الحل الوحيد الممكن لحل الأزمة الأردنية المزمنة، يكمن في الاعتراف الواقعي بالانفصال الأردني ــــــ الفلسطيني، وإعادة تأسيس العلاقة بين الشعبين على أساس تنفيذ برنامج العودة السياسية للاجئين والنازحين، من خلال منحهم الجنسية الفلسطينية مع حق الإقامة والحقوق المدنية ـــــ غير السياسية ـــــ في الأردن. وهو ما يمكن الاتفاق عليه بين عمان وحكومة وحدة وطنية فلسطينية ينبغي أن يكون على رأس جدول أعمالها إعادة تأسيس وحدة الشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي في عملية وطنية تضمن مواجهة سياسات التصفية الإسرائيلية، وتطرح القضية الفلسطينية من جديد، لا بوصفها قضية حدود الـ 67، بل كما هي فعلاً، قضية إعادة بناء المجتمع الفلسطيني على أرضه، في دولة ديموقراطية واحدة تنهض على أساس تفكيك الكيان الصهيوني والعيش المشترك مع اليهود.
إنّ العودة السياسية للاجئين والنازحين، ستؤدي إلى نجاح الثورة الديموقراطية الأردنية الحبيسة منذ عقدين، وتوحيد الأردنيين والفلسطينيين في مواجهة العدو الإسرائيلي، تحت مظلة النضال لإنجاز حق العودة الفعلي إلى فلسطين.
في المقابل، فإن ملكية دستورية في الأردن من دون تنفيذ العودة السياسية، تعني تحويل الأردن إلى وطن بديل، وتحويل الديموقراطية إلى آلية للانقسام الوطني وسيطرة الرأسمالية الليبرالية والرجعية الثقافية، وتفاقم التناقضات.
* كاتب وصحافي أردني