محمد بنعزيز *يوم عيد الحب، توجّهت إلى السينما لمشاهدة فيلم «كزا نيغرا». الجو مشمس والمقبلون على مشاهدة الفيلم كثيرون، جلهم شبان وشابات. يخلق ازدحام المكان ودفؤه جواً حميماً، وخاصة أن اللحظة تأتي بعد أسابيع طويلة ممطرة. يعامل عشاق الجيل الصاعد بعضهم بعضاً بودّ، وتمثّل السينما لحظة حداثية بالنسبة لهم، بعيداً عن إكراهات الرقابة الاجتماعية. أمارس هوايتي في تشخيص مرحلة العلاقة بين كل شاب وشابة، الذين يعيشون علاقات راسخة انفصلوا عن الجموع ويقفون هادئين في الزوايا، أما الذين يستعدون للخلوة الأولى في قاعة السينما فيتصرفون بتوتر واندفاع ضمن مجموعات.
هناك شبه كبير بين المتفرجين وبطلي الفيلم. لاحظت ذلك انطلاقاً من الاندفاع البدني لإثبات الذات بالأشياء وبالسلوكيات وبالمعجم المستخدم في التخاطب: كريم (22 سنة) وعادل (21 سنة). يحمل الأول همّ أسرة مكوّنة من إخوة وأم وأب معاق، ويحلم الشاب الثاني بالهجرة إلى السويد، وهو يحمل صورة لمدينة مالمو، يعرض الصورة على كل من يلتقيه، ويستفيض في وصف الفاتنات السويديات اللواتي ينتظرنه هناك...
يلتقط المخرج صور الشابين يتسكعان بكاميرا منخفضة ومائلة إلى أعلى، لذا يظهر الممثلان وتظهر خلفهما قمم العمارات مثل غابات إسمنتية، عمارات قبيحة مسودة بسبب الغبار والدخان. حيثما توجهت الكاميرا، يطالعها هذا التعبير المكتوب على الجدران «ممنوع رمي الأزبال وشكراً». هذا هو وسط مدينة الدار البيضاء الذي صنع مجدها في منتصف القرن العشرين، وصور فيه فيلم «كازابلانكا» إبان الحرب العالمية الثانية الذي مثلت فيه إنغريد برغمان.
الآن، وفي بداية القرن الواحد والعشرين، تغير وجه «كزا نيغرا» أي «الدار السوداء». صار المكان بائساً، لأن الفئات الميسورة هجرت وسط المدينة باتجاه الضواحي الراقية مثل «كاليفورنيا»، فبقيت الأحياء التي كانت سابقاً القلب النابض للمدينة مرتعاً للنفايات والدعارة ومطاردات الشرطة للعاطلين والمشردين الذين يستهلكون المخدرات والكحول وينامون في علب الكرتون وسط المزابل.
جرى التصوير في الليل وهو يكشف مشاهد القبح ومنابع الخطر، ويترافق توالي المشاهد مع موسيقى رتيبة تعكس الثقل النفسي للمعاناة، موسيقى تُشعر المشاهد بالانقباض وتُلقي به في عمق المشهد، فيتعاطف مع هذه الشبيبة التي واتاها العمر وخذلتها الظروف الاجتماعية واقتصادية.
كان الربع ساعة الأول من الفيلم رتيباً، لكن ما إن قدم المخرج شخصياته، ولملم خيوط الحكاية، حتى ارتفع إيقاع الأحداث تصاعدياً وأصبح مشوقاً، مسلياً ودالاً. أحداث حكاية متماسكة تأخذ المشاهد في رحلة تجسس على العالم السفلي للمدينة الكحلاء العملاقة.
مع توالي الأحداث، نكتشف أن الشابين على استعداد لأي شيء لتحقيق أهدافهما؛ يريد كريم إعالة أسرته ويبحث عادل عن مال لشراء عقد عمل في السويد. وفي الرحلة المضنية لتحقيق ذلك، نتعرف على قاع العاصمة الاقتصادية للمغرب، مدينة يتحرك فيها ربع سيارات البلد، مدينة تعكس الفوارق الطبقية الصارخة، يسكنها أربعة ملايين نسمة، يعيش خمسة في المئة من الأغنياء في نصف مساحة المدينة، في الفيلات، بينما يعيش 95 في المئة من السكان في النصف الباقي من المساحة. وهذا خلل لا نظير له، المدينة عالم كريه وخطر، ويعيش فيه شبان مجردون من أية وسائل دفاع غير عضلاتهم وقدرتهم على الجري أمام أي خطر يتهددهم. هذا ما يملكونه، ما دام مستوى تعليمهم منخفضاً ولا يؤهلهم لأي عمل يحقق الحد الأدنى من أحلامهم.
وهو المحيط الذي يعيش فيه بطلا الفيلم. يقطن عادل مع أمه وزوجها العنيف، لا يحمل بطاقة وطنية، يحمل فقط صورة مدينة أوروبية مضاءة جيداً. يتدحرج بحثاً عن ثمن عقد عمل ليهاجر، وهو مستعد لارتكاب جريمة لتحقيق حلمه، لكن شجاعته تخونه، وفي لحظة تواصل مع المشردين، يدخن كمية حشيش كبيرة فيدوخ ويرى عروساً شقراء تزف إليه. عندما يستيقظ يجد نفسه قد قضى الليل في العراء. بين الحلم واليقظة، ينتقل الشاب بين هويتين، هوية معيشة قاسية وهوية متخيلة لذيذة.
كريم، الواقعي، يقطن مع أسرته، يلبس بذلة ويلمّع حذاءه، يعتقد أن العمل والانضباط هو سبيل النجاح، لديه مقاولة: يدير مجموعة أطفال يبيعون سجائر بالتقسيط في ما يعتبره «منطقته الخاصة»، التي يحظر على غيره أن يتاجر فيها، لكن الشرطة تطارد «عماله»، وليس لديه ما يواجه به الشرطة غير الفرار... عمل يوماً واحداً في ما عمل به والده سابقاً، كره البشاعة والاستغلال ومضى يستغرب صبر والده على تعليب السمك ثماني ساعات يومياً لمدة ثلاثين سنة، حتى أصيبت يداه بالفالج، فلا يتوقف عن تحريكهما كما كان يفعل لتقشير السمك، وهو مشهد صوّره شارلي شابلن في فيلم «الأزمنة الحديثة» حين خرج من المعمل واستمر يحرك يديه كأنه يدير البراغي.
عدا العنف الذي يفرضه المحيط، يسود عنف خاص علاقة الشابين الصديقين، عنف بدني أحياناً ولفظي غالباً، لأن كل واحد يسفّه أحلام الآخر ويفضح وعيه المقهور. وهذا العنف البيني قد أفسد الكثير من مشاريعهما، ويبدو أن هذا الاستنزاف هو الذي يمنع الشبيبة من تحديد خصمها بوضوح بدل تبذير طاقتها في العنف المتبادل. يصف كل منهما الآخر بأنه «خوروطو»، أي حثالة، وكانت اللحظة الأقسى هي اللحظة التي فقد فيها كريم حبيبته فتساءل «ألا أستحقها؟»، أجابه أحدهم «أنت بوغوس beau gosse لكن خوروطو». هذا العنف البيني دليل على أن شبيبة مغرب اليوم لا تسدد في الاتجاه الصحيح، لا تملك بوصلة واضحة، وليس لها حسب الفيلم أي أفق سياسي لتغيير واقعها.
تزامن عرض الفيلم مع حملة الحكومة لحث الشباب على التسجيل في اللوائح الانتخابية. يصور الفيلم الفئة نفسها التي استهدفتها الحملة. وبالنظر إلى الصف الذي كان أمام شباك تذاكر القاعة السينمائية، سيشعر وزير الداخلية بالغيرة من مخرج الفيلم، السيد نور الدين لخماري. لم تكن هناك شبيبة أمام مكاتب التسجيل، وفي استطلاع رأي على موقع إلكتروني مغربي، قال أكثر 80 في المئة من المصوتين إنهم لن يتسجلوا في اللوائح الانتخابية، وهذا ما يطرح أسئلة عن المسار الذي ستتخذه هذه الشبيبة لتغيير أوضاعها.
في فيلم كزا نيغرا، الذي يمكن تعميم اسمه ليصبح «مغرب نيكرا»، ليس للشبان أي اهتمام سياسي، مع أن السياسة هي التي تصنع التغيير. تنظيمياً، تراجعت شبيبة الأحزاب، وحتى ما بقي من تنظيمات شبيبة حزبية فهي تقاتل لكي لا تكون مجرد أداة ذيلية لقياداتها الهرمة. نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، التي كانت مدرسة وخزاناً للأطر السياسية القاعدية الشابة، أصبحت مجرد فصائل متناحرة، وحتى الفصائل فيها لُجينات مناطقية تكتفي بما يعتبره الرفاق «مطالب خبزية».
لا يرجع هذا الوضع إلى ضعف الحس التنظيمي للشبيبة فقط، بل يرجع أيضاً إلى عنف السلطة، فالشبيبة البارزة في المشهد المغربي اليوم هي شبيبة السلفية الجهادية في السجون. والشبيبة التي نظمت انتفاضة ميناء سيدي إفني مسجونة منذ أكثر من ثمانية أشهر دون محاكمة، وطبعاً تقبع في السجون الشبيبة العاطلة التي احتل أعضاؤها أخيراً مقر حزب الوزير الأول ومقر المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء...
عدا هذه الأقلية، يهيمن ضعف الوعي والتنظيم السياسي، وتدني المستوى التعليمي وقلة الانضباط. فأثناء الفيلم كان المتفرجون يصفرون ويصفقون ويتنقلون ويتحدثون في هواتفهم... هذه ملامح شبيبة رثة تبعث على القلق، وإذا عرفنا أن المواطن المغربي ينفق أقل من ثُمن دولار على الثقافة يومياً، تصبح الصورة جلية.
* صحافي مغربي