رحلة أبو جهاد من «فتح» والانتفاضة إلى الاستشهاد
علي السقا
تُرى ما الذي كان سيقدمه خليل الوزير لفلسطين، لو قدر له البقاء على قيد الحياة؟ يبدو السؤال كأنه محاولة للولوج إلى عالم من الغيبيات. إلا أنه لا يعدم إمكان استشراف صورة تقريبية.
أوّلها، أنّ «أبو جهاد» كان سيفعل ما بوسعه لإثبات أنّ القضية الفلسطينية عنصر بإمكان الدول العربية الاتحاد حولها لا العكس. وهي بعد مضي 22 عاماً على استشهاده يمكن القول إنها لا تزال قضية مركزية، وإنها اليوم تخص العرب دون غيرهم. والعرب هنا ليسوا بصفتهم ضحية مشروع تقسيمي راهن ومستمر، بل في الواجب الذي يحتم عليهم فعل الممكن بغية تحسين شروطهم في أي تسوية مقبلة.
وهذا الواجب يقتضي خوض غمار قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ملحّة متصلة. وهي إذ لا تقل أهمية عن القضية الأساس، إلا أن اجتراح الحلول لها يصب تلقائياً في خدمة القضية الفلسطينية.
ثانيها، أن الذاكرة العربية والفلسطينية على وجه خاص، لا تزال حبلى بمشاهدات لفظاعة الاحتلال الإسرائيلي وإجرامه. وهي لحظة لا تكف عن الحراك، ليس لوضعها جانباً، أي تناسيها، بل للوقوف على واقع أشد فظاعة. الاحتلال الإسرائيلي أصبح يمتلك القدرة على الدفع بضحاياه من الفلسطينيين إلى الازدياد باطراد، وهو يفعل!
خليل الوزير هو ربيب تلك الذاكرة. عايش تفاصيل النزوح داخل فلسطين وعنها. ولأنّه لم ينقطع عن ذاكرته ولا لبعض الوقت، كان له رغم سذاجته السياسية على حد قوله، أن يكتشف سريعاً سر ذلك الإحباط الذي تملكه وأبناء جلدته في عام 1948. عجز الأنظمة العربية عن تقديم ما من شأنه مساعدة الفلسطينيين على الصمود والعودة. «لم نكن نعلم أن هذه الأنظمة كانت أيضاً خائفة من إسرائيل والدول الكبرى التي تؤيدها». حتى أن وضع اللاجئين في الدول العربية المجاورة لم يكن أقل سوءاً منه في الداخل الفلسطيني تحت الاحتلال. فقد «كانت المخيمات سجوناً. كان شعبنا معزولاً كلياً. لم يكن مسموحاً له أن يتحرك أو يتحدث، أن ينتظم أو يتظاهر. ومن يفعل كان يعامل كخائن أو جاسوس».
لعل هذا ما يفسر طبيعة العلاقة المتأزمة التي اتخذت سريعاً طابعاً دموياً بين منظمة التحرير وكل من سوريا والأردن واليمين اللبناني. لا يمكن، تحت أي مسمى، إغفال الدور السيئ الذي لعبته سوريا ضدّ الفلسطينيين منذ اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. دور سوري بدأ بالاغتيالات التي طالت رموزاً لبنانية يسارية لصيقة بالثورة الفلسطينية، مروراً بالانشقاقات داخل صفوف منظمة التحرير، وصولاً إلى رعاية حرب المخيمات. كان ضرب مشروع المقاومة واضحاً. يضاف إليها اعتبار اليمين اللبناني حينها العنصر الفلسطيني، عنصراً رئيسياً في الحرب الأهلية وتجب تصفيته.
استطاع خليل الوزير أن يضع ذلك التاريخ المفجع جانباً ليقرّ بوجوب «تصحيح الصفحة المؤلمة مع سوريا وتجنب خوض معارك لن تكون إلا في خدمة العدو». واعترافه لاحقاً بأن العامل الفلسطيني «ليس ثابتاً في لبنان بقدر ما يعنيه وجوده المؤقت وارتباط قضية لبنان بقضية فلسطين». إلا أن الأمر لم يغير في وضع اللاجئين الفلسطينيين شيئاً. فالمخيمات حتى اليوم لا تزال سجوناً مفتوحة على الهواء. كما يمارَس بحق اللاجئين أشد أنواع الظلم بحرمانهم من أبسط مقومات العيش، وكل ذلك بذريعة منع التوطين وحق العودة.
ثالثها أن حضور خليل الوزير سيكون بمثابة شهادة تاريخية على حقائق عدة:
الأولى أن الواقع الذي دفع بخليل الوزير منذ عام 1953، مثل أي فلسطيني آخر، إلى أخذ قضيته بيده، لم يكن لممارسة حق طبيعي فحسب، بل كان رد فعل منطقياً على الإخفاق (وهو مستمر) عن تحقيق أي إنجاز عربي يجيّر لمصلحة القضية الفلسطينية. فالفلسطينيون اليوم أمام واقع أسوأ من السابق، بحيث لم تكتف الدول العربية بعجزها، بل هي تمارس تواطؤاً علنياً ضدهم. وهم إذّاك، أضحوا مطالبين أكثر من ذي قبل، بأخذ القضية الفلسطينية على عاتقهم.
الثانية أنّ توحيد الصف الفلسطيني أمر ممكن وضروري. والمثال واضح في تجربة جبهة المقاومة الشعبية التي فتحت عيني خليل الوزير عام 1955 على حقيقة مهمة: إمكان قيام تنظيم ائتلافي واسع تنتظم فيه مدارس فكرية متنوعة عند نقطة التقاء رئيسية، هي تحرير فلسطين.
وهو إذ تبنى تلك الصيغة، استطاع وياسر عرفات، تكوين نواة التنظيم الذي عرف لاحقاً بحركة «فتح». ليس من الصعب إعادة تفعيل هذه الصيغة الائتلافية في الداخل الفلسطيني اليوم. وذلك لأسباب عدة، منها أنه منذ اندلاع الانتفاضة في عام 1988، وصولاً إلى العدوان الأخير على قطاع غزة، أثبت الشعب الفلسطيني قدرته على وضع خلافاته جانباً والتوحد في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. يضاف إلى ذلك أنّ الوضع القائم لم يعد يحتمل المزيد من التشرذم، وهو يفرض على حركتي «فتح» و«حماس» الاستجابة لأي طرح من شأنه إحلال التهدئة والتوصل إلى صيغة موحدة تكفل شراكة كل الأطراف في صناعة القرار الوطني الفلسطيني. لعل بوادرها دعوة القيادي في حركة «حماس» محمود الزهار إلى إعادة صياغة منظمة التحرير على قاعدة برنامج سياسي موحد هدفه المقاومة من أجل التحرير.
هاتان الحقيقتان، إضافة إلى الموقع المقاوم الذي كان يشغله الوزير في حركة «فتح» والدور الرئيسي الذي لعبه في إطلاق الانتفاضة الوطنية الفلسطينية، دفعت بإسرائيل إلى التخلص منه عبر اغتياله في منزله في تونس في نيسان من عام 1988. فقد استطاع خليل الوزير أن يقدم الانتفاضة بصفتها رد فعل شعبياً مدنياً يتوخى إظهار الاحتلال الإسرائيلي على حقيقته. فالانتفاضة «استطاعت كسب قطاعات واسعة من الرأي العالمي حتى تزايد إحساسه بأن شعبنا الفلسطيني هو ضحية الاحتلال الإسرائيلي لا العكس»، وذلك بعد «استفراد ماكينة الدعاية الصهيونية بالعقل الأوروبي، حيث دأبت على تصوير إسرائيل في مظهر الضحية المهددة دائماً».
حاول خليل الوزير أن يتبع دينامية تخوله المواءمة بين العمل العسكري والتفاوض. إلا أن هذه الدينامية كانت ولا تزال تتطلب جهداً عربياً مشتركاً. وهو ما طالب به في حينها عبر «تبني موقف عربي سياسي موحد تجاه الانتفاضة وتوحيد لغة الخطاب السياسي مع الإدارة الأميركية»، حتى يستطيع الفلسطينيون استثمار ما أنجزته الانتفاضة من فرض حقيقة ساطعة؛ حقيقة فلسطين: وطناً وشعباً، قيادة ومنظمة، إرادة وأرضاً، واقعاً وحقاً».


العنوان الأصلي
أمير الجهاد ـــ خليل الوزير

الكاتب
معين أحمد محمود

الناشر
دار بيسان