أنسي الحاج

■ اشربْ


أتعرفُ النساءُ مقدارَ رغبةِ الرجالِ فيهنّ، ويتمنّعنَ تأجيجاً للشوق، أم يجهلن، حارماتٍ الطبيعة تناغماتٍ لا تُعوّض؟ أيدرينَ مقدارَ الفراغ الحرّاق الذي تشعر به الأحضان غير المُشْبَعَة، السواعدُ غير المُشْبَعَة، المسافات غير المعبورة؟ الطبيعة تبكي من فراغٍ كهذا. المدن تنهار قلوبُها. العالم يتقلّص.
أكرهُ يوم المرأة العالمي. كل امرأةٍ تشعر بنظرات الرجال عليها، لا بد أن تكره هذا اليوم. الشجرة أيضاً تكره يومها الرسمي. والطفل، والعامل، والأرض، والمقاومة. جميع الأيام المستفردة أيام محنّطة. مصمودة كمومياء. أعيادٌ هي في الحقيقة مآتم. المفروض مرفوض. المرأةُ عَصَبُ كلِّ لحظة، لا ذكرى يوم في السنة. ولا لزوم للإيضاح أن المقصود بالمرأة، دائماً ودون التباس، هو المُشتهاة. أمّا كيف تكون هكذا دائماً ودون التباس، فهذا شأنها وواجبها، وعلى الآخرين شرفُ الشهوةِ أو بؤس غيابها. هذا هو حكم المقادير، ولا عبرةَ بالاستثناءات. لا يُحْلَمُ بغير السحر. الفتنةُ واجب الحياة تجاه ضحاياها البشر. اسألِ الأولاد، الذين تخفق عيونهم للعَجَب أكثر ممّا تخفق قلوبهم. اسأل روّاد السينما، الذين يلعنون لحظة انتهاء الفيلم لأنّها تقطع عليهم تلك الرعشات. اسأل المنخطفين، كيف يستيقظون من انخطافاتهم كتَدَحْرُج المتسلّق من أعلى الجبل.
لا أحدَ يعود من لمسة السحر عودة الابن الشاطر، فكلُّ العائدين تنخلع روحهم.
مَن يَصنع لنا فراغاتنا هو نحن. ولكنْ كيف كنّا سننجو لولا فراغاتنا؟
■ ■ ■
أتذكّرُ ما كتبت، ما أكتب، وأقول إن ثمّة ظواهرَ استعراضية، إكزيبيسيونيّة، لدى بعض الكُتّاب، وأنا منهم، يجب التغلّب عليها باسم الذوق إن لم يكن لأجل الترفّع. قد يُعْتَرَض: وماذا يتبقّى للكاتب إذا قمعنا فيه الذات؟ على أنه سؤال سفسطائي. لا الكاتب عنصر لازم ولا الكتابة مخنوقة في هذا الخندق دون سواه. لينظر الكاتب إلى العالم حواليه، من أصغره إلى أكبره، وإلى مشاكل الآخرين، إلى مباهجهم وهمومهم، وإلى ما وراء. ولينم على شؤونه فليس القارئ ممرّضاً ولا القارئةُ أُمّاً. بالكاد مَن يَقرأ يقرأ، فلا نُندّمه.
■ ■ ■
... يُجاب على ذلك، في جملة ما يُجاب، أنه إذا كانت المطالعة هرباً من الذات، فالكتابة إبحارٌ في الذات. على الأقلّ الكتابة الوجدانيّة.
يُجاب على الإجابة: كلُّ الكتاباتِ مشروعة ومُشرعة على مختلف أنواع العيون، شرطَ أن تقيم حواراً أو يجري التيّار بينها وبين القارئ.
إلى آخره ممّا لا يُغني عن البرهان.
■ ■ ■
... دعنا من المراجعات، انظر إلى هؤلاء المحجّبات في الطريق، إلى التباين المثير بين النقاب والغنج، بين التستُّرِ وما يوحيه، انظر إلى الوجه المنوَّرِ تحت الحجاب، إلى ألوان الحُجُب بين أصفر وفيروزي، إلى هذا المغناطيس الذي يقول لك: هذا أنا وهذا أنت، أيُّنا سيكون أقوى؟ انظرْ إلى ما تقوله قسماتٌ تُكذّب الكلمات، إلى المصابيح المغطّاةِ بمصابيح، إلى الفضيلة الأكثر إغراءً من أيِّ صراخ.
دع عنكَ لومي. كلُّ شيءٍ حَرّاقٌ من بعيد.
ومن وَسَط.
ومن قريب.
دع عنكَ أيّامكَ واشرب كأسَ عينيكَ حتّى النوم.


■ الحرف اللاتيني


كُتّاب العربيّة أجرهم عظيم، أولاً لأن أخويّة صغيرة من الأصدقاء يقرأونهم، وثانياً لأنهم يكتبون بلغة يكرهها الغرب، والغرب يمتلك مفاتيح العالميّة والإدخال إلى «الحضارة الحيّة». الحرف اللاتيني هو السرّ. لسنا وحدنا منبوذين، بل جميعُ الذين يكتبون بغير الحرف اللاتيني، واللغات المنبوذة هذه تُعدُّ بالمئات.
لا يزال الغرب، بعدما تحوّلت الكرة الأرضيّة شققاً مفتوحة بعضها على بعض، إذا أراد «إنعاش» ثقافة ما، صينية أو هندية أو عربية، ينقل إلى لغاته ما ينتخبه منها، كما يفعل السائح بكاميرا الذكريات. يبدأ الغرب بالإنارة ثم ينتقل إلى التلقُّحِ فالمصادرة.
يُكرّهكَ بتراثك ثم «يعيد اكتشافه» ثم يسطو عليه. وأنت المتفرّج العاجز، مطوَّحُ به كالبهلول، أو، في ردّة فعلٍ سلبية، متعصّب متزمّت معقَّد مثل قضيب الزعرور.
لا يزال السرّ في الحرف اللاتيني، إلى أن تدركه لعنةُ التآكل.
أمنيةٌ من صميم الحسد.


■ غابةٌ وراء غابة


«اذهبْ ولا تلتفت
ولا تتركْ وراءك عنوانك
اذهب ولا تأسف على الجذور
لأنّ الجذور تهاجر معك.
اذهب على دروب حبّك
حيثما تقودك الريح
ولا تَخَفْ فالنهر صاحبك
والأغصان المتشابكة فوقه
ستحميك من الشمس.
اذهبْ قبل فجر الصيّادين
والحبيبةُ الهاربة معك
أجمل من دموع حرمانها القديم
تَفْتح لك الغابة وراء الغابة
وتهبط معك
شلاّل الضباب والنجوم...».


■ لمحة


لا يحقّ للمنتصر أن ينغلب حتّى لا يشقى المغلوب. الصورة، سيّدتي. لا تكسري صُوَرَكِ في عينَيْ هذا الرجل، هذا الشقيّ بدون صُوَرك.
الفرق بين العلى والأسفل لمحةُ بَصَر. وهذا التوهّم طقسٌ مقدَّس بخارُهُ بخور وسرابه لحمٌ حيّ.
النظرات، سيّدتي. عندما تتوارين عن النظر يحلّ ضوءُ الغياب، فوّار الأقمار.
ثابري على هذا التعرّي المتكتّم، ماءُ العيونِ الجائعةِ يغسل أعتابَ بيتك.
لا نكتب إلاّ عمّا نُحبّ. لا نُحبّ إلاّ ما يُفحم الكتابة. نارُ العيون الجائعة تحرق أصحابها فيصيرون أحلاماً بلا رماد.
وأنتِ أيّتها الغيوم اركضي، لن تركضي أسرع من أجنحة الرغبة. ولا الرقاد، أيّاً يكن، يستطيع إخفاءك أيّتها النظرات.
الفرقُ بين الشقاء والهناء، سيّدتي، لمحةُ بصر.


عابـــرات

روحُ المرءِ قضيّةٌ عظيمة دون شك، وعالمه الداخلي لا يزال غابةً شبهَ عذراء رغم سابري الأغوار... ومع هذا فأن القشرةُ الخارجيّة، الجسد وتفاصيله، تُرجّحُ الكفّة عند الاختيار.
لعلّ الروح مجرّد فانوسٍ يضيءُ من داخل، فإذا كان الخارجُ جميلاً زاد عليه، وإن كان دميماً لم يستر عليه. وما الحديث عن روحٍ جميلة تعوّضُ عن نقص الشكل الجميل إلاّ من باب تعازي المثقّفين.
■ ■ ■
ممارسةُ الكتابة كفعلِ انتحار معلَّق، أسلوبٌ مؤثر في مجتمعٍ يقيم وزناً للحياة، وأسلوبٌ فاشلٌ في مجتمعات التوحُّش. نحن مجتمعٌ متوحّش طيّب القلب سطحيّاً.
■ ■ ■
ما كان الأنبياءُ يدعون إلى التواضع لو لم يتمتّعوا بالسلطة. وما كانت الجموعُ توالي زعماءها لو لم يمعن هؤلاء في التسلُّط. الإنسانُ يَعْبد مَن يَكْسره، ويظنّ العكس.
■ ■ ■
آخر الشوطِ تنهيدة، لو تجاوزها الإنسانُ لثقَبَ أيَّ جدارٍ كان.
■ ■ ■
للماضي في كلِّ حاضرٍ قرص، وللحاضر في كلِّ مستقبلٍ طعمُ رماد.