بعد 54 عاماً من الخدمة الكهنوتيّة، قرر الخوري يوسف عون أن يتقاعد. حين توقّف عن الخدمة الرعوية منذ شهرين، كان يختتم 150 عاماً تناقلت فيها عائلته الجبّة السوداء من الأب إلى الابن. في مسيرته الطويلة محطات مؤثرة طبعتها معاناة ابن الجرد وصلابة «صلة الوصل» في زمن الحرب
سناء الخوري
وقف على المذبح بعد تلاوة الإنجيل. كان كلّ من في الكنيسة ينتظره ليلقي عظته الأولى ككاهن، بعدما نفض عنه اسمه القديم، مالك، واختار لنفسه اسماً جديداً: يوسف، تيمّناً بشفيع العمال. اسمه الجديد هذا سيرافقه طيلة حياته، تماماً كالجُبَّة السوداء التي ارتداها يوم سيامته كاهناً في 16 تمُّوز 1955 على يد المطران أنطون عبد.
بقي عليه أن يعرف كيف يلقي عظةً. عمره 25 عاماً، وقبل أن يصبح «أبونا» كان شاباً وسيماً تزوّج وأنجب طفلة، ولم يمضِ على تخرّجه في الدراسات اللاهوتيّة شهران. نظر إلى الموجودين في كنيسة عربة قزحيا (زغرتا)، فرأى أنّ معظمهم يكبره بسنوات، فاستهلَّ عظته بأوّل فكرة خطرت في ذهنه: «لقد شاءت العناية الإلهية أن أكون خادم رعيتكم، وأنا الصغير بينكم. إنّها المرة الأولى التي أخدم فيها رعيةً، فأرجو أن تساعدوني في مهمَّتي، فيكون كلّ واحد منكم أكبر منِّي معلِّماً لي».
مرّت العظة الأولى بسلام، لكنّ الخوري يوسف عون كان يعرف أنَّ عمل الكاهن لا يقتصر على معرفة اختيار الكلام المناسب. فقد ورث المحترم كار «الخورنة» أباً عن جد. منذ طفولته الأولى، كان والده الخوري بولس يوقظه كلّ يوم، عند الرابعة والنصف صباحاً، ويصطحبه إلى كنيسة قريته ممنع في جرود عكار. كانت الخوريّة ترجوه: «دعه ينام، حرام». فيجيبها بولس: «لا تتدخلي يا حسيبة، سيصبح كاهناً مثلي».
هكذا كان. وبقي الخوري يوسف كاهناً 54 عاماً، تماماً كما أراد أبوه. وبعد أن أعيته تلك الخدمة، قرَّر أن ينسحب ويتقاعد. هو اليوم أبٌ لخمس بنات وصبيين، وجدٌّ لأحفاد كثر، ولكن لم يختر أحد منهم أن يكمل في طريق الكهنوت، لذا سيكون هو الكاهن الأخير في عائلة اختارت هذه الدعوة منذ أكثر من 150 عاماً.
لا يأسف «أبونا» كثيراً لهذه «الآخرة»، رغم فشله مراراً في إقناع ابنه الأصغر بارتداء الثوب الأسود، معزّياً نفسه بأنّه دفع كثيرين إلى الكهنوت. من هؤلاء، يذكر أبونا يوسف الخوري يوسف بشارة الذي أصبح فيما بعد أسقفاً على أبرشيّة قرنة شهوان الشهيرة سياسياً. «منذ كان تلميذاً تنبّأت له بأن يصبح مطراناً، وخصوصاً أنّ والديه كانا تقيين». يذكر أيضاً منهم شباناً أخذهم بنفسه إلى «إكليركية مار أنطونيوس البدواني» في كرم سده (زغرتا) المخصصة لإعداد الكهنة، تماماً كما فعل معه أبوه حين كان في الثانية عشرة من عمره.
«كنت نشيطاً في المدرسة، لكن ضعيفاً في اللغة الفرنسيّة، لأنني لم أسمع بوجودها حتّى دخلت الإكليريكية». في مدرسة قريته الجرديّة اقتصرت دراسته على «علوم ضيعجية»، كما يصفها، وعلى رعي الأبقار التي تقاسمت عائلته معها غرفتَي بيت متواضع.
الخوري يوسف في الثامنة والسبعين اليوم، لكنّه يتذكر بلهفة وحنين أسماء معلّميه ونظام المدرسة الصارم، كما يستعيد بنبرة فخورة نجاحه في شهادة البريفيه التي تقدّم إلى امتحاناتها في مدرسة الفرير عام 1948. في العام التالي بدأ دراسة علم اللاهوت، وتقدّم لإجراء امتحانات في بكركي أمام رئيس اللجنة الفاحصة آنذاك المطران بولس المعوشي. يشرح بإعجاب طريقة تلك اللجنة الخاصّة في إعلان نتائج الامتحانات «إذ كانت تضع أمام الطالب حبّة قمح للدلالة على نجاحه في مادّة ما، وحبّة شعير للدلالة على رسوبه، ومن كان يرى بين قمحاته حبة شعير واحدة يدرك أنّه رسب».
بقي عقداً ونيّف في رعيّة عربة قزحيا المارونية، وخدم في تلك الفترة أيضاً رعايا أخرى كسرعل والقريات وخريبة الجرد، وغيرها. توسيع شبكة أعماله جعله يغيب فترات طويلة عن المنزل. كان يترك الخوريّة مع الأولاد في ممنع، ويذهب في خدمات قد تطول أياماً على ظهر فرسه الحمراء، التي حملته في الثلج كما في الحرّ.
عام 1975، ترك الخوري يوسف زغرتا، بعد أن نقله المطران أنطون عبد إلى رعية بيت ملات في عكار، على أثر إحراق تلك القريّة في المناوشات الأولى للحرب الأهليّة. «دخلت قريةً تحوّل لون حجارتها الأبيض إلى أسود كالفحم. أكثر من عشرة قتلى يقبعون في مستشفى في طرابلس، وأراملهنّ لا يعرفن وسيلة لإعادة الجثث ودفنها». يروي بأسى كيف أعاد الجثث ودفنها في القرية بعد مساعٍ مع قيادة الجيش.
شبكة علاقات الخوري يوسف عون الواسعة التي نسجها طيلة فترة ممارسته الكهنوتية، جعلته صلة وصل بين مختلف الأطراف السياسية في عكار، ومكّنته من مساعدة أبناء المنطقة حين يحتاجون إليه. «كان الناس يأتون ليسألوا عن بيت المختار في بيت ملات فيدلّونهم على بيتي. وحين كان المسلّحون يطلبون خوّات من الناس، كنت أعطيهم من جيبي». في تلك القرية، فتح بيته للجميع، وبقي أكثر من ثلاثة عقود يكلّل أهلها، يعمّد أولادهم، يعطيهم القربانة الأولى، يدفن موتاهم، فتحوّل إلى الثابت الوحيد في جميع مناسباتهم الكبيرة والصغيرة، حتّى تقاعد أوائل هذا العام.
سنواته تلك لم تمرّ بسهولة. فبيوت الكهنة الصغار تختلف عن بيوت أكابر الإكليروس، فحتّى «الجيش الأسود» يضمّ نبلاء وكادحين. ما زال يتذكّر طعم العذاب الذي ذاقه حين خطف في شتاء عام 1976. حينها كان يقيم مراسم دفن، فإذا بمسلّحين يطلقون النار على الجمع ويقتادونه إلى الجرد. في محنة كهذه، كان دور الخوريّة لكي تتصرف بحكمة. عرفت كيف تستغلّ علاقاته مع «المحبّين الكثر» كي تعيد المحترم إلى بيته. هنا يتذكّر زوجته الراحلة، لور. «كانت صاحبة بيت كريمة، وكان وجهها بشوشاً، لم تقفل الباب يوماً في وجه زائر». محطّات كثيرة من حياة الخوري يوسف حفرتها زوجته في ذاكرتها، فكانت ترويها لأحفادها قبل وفاتها. أمّا هو، فلا يشعر بثقل ما عاشه من تاريخ إلا حين يتذكّر دخول الجيش السوري إلى عكار في بداية الحرب الأهليّة. «تمركزوا في مطار القليعات، وذهبت بنفسي لمقابلة العميد الذي استقبلني بترحاب كبير. قلت له دخلتم إلى عكار لفرض الأمن والاستقرار، لذا أطلب منك الالتفات إلى القرى المسيحية لزرع الاطمئنان في نفوس من بقي من سكانها المهجّرين». لم يبقَ من مغامراته الكثيرة إلا ذكريات تغزو خلوته في بيت الكهنة في دير «يسوع الملك»، وبصمات تركها في عكار شاهدة على مرحلة التحوّلات السياسيّة والطبقيّة في تلك المنطقة المحرومة.


نكتة حاضرة

رغم صرامة اللون الأسود الذي عرف به، ولحيته البيضاء الوقورة، إلا أن للخوري يوسف نكتة حاضرة. هكذا، يفضّل في تعاطيه مع الناس أسلوباً أساسه حس فكاهة منتشر عند أولاد الجرد. أتاح له منصبه وسنوات خدمته امتياز «المَونة» لكي يشتم رجلاً لأنّ هندامه لم يعجبه، أو يوبّخ امرأة على طبخها السيّئ، فيثير من حوله ضحك الحاضرين، بمن فيهم المنتقَدين