إيلي شلهوبيخطئ من يتعاطى مع المصالحة العربية المزعومة انطلاقاً من البيانات الرسمية القائمة على إرث إيديولوجي عروبي عجز على مدى عقود عن توفير الحد الأدنى من القواسم المشتركة، ومن الكلام المعسول المبني على تقاليد وأعراف مستوحاة من عصر البداوة التي لا تزال متغلغلة في الدوائر الحضرية. صحيح أن البيان الرسمي الذي صدر عن قمة الرياض، المرحّب بها طبعاً، كان شديد الدقة. قال بوضوح إن المتحاورين لا يزالون في طور «تنقية الأجواء»، بمعنى تصفية التشنّج في العلاقات الشخصية بعد سنوات من الشتائم المتبادلة، تمهيداً لـ«مصالحة» تؤدي إلى «طيّ صفحة الماضي وتجاوز الخلافات» والدخول في «مرحلة جديدة» من «التعاون».
وجه الدقة يظهر في تأكيد أن مسيرة المصالحة لا تزال في مرحلتها الأولى، وأنها ليست مجرد تبويس لحى. أما الجانب المضحك فهو الهدف الذي حدّده البيان لنهايتها: الاتفاق على منهج موحّد للسياسات العربية. كأن القادة الأربعة، الذين التقوا الأربعاء الماضي، من السذاجة بمكان ليكونوا مقتنعين بأن أباطرة العالم العربي قادرون الآن على تحقيق ما عجزت عنه أوروبا بعد أكثر من نصف قرن من العمل الوحدوي. لعل الكلام السوري كان الأكثر واقعية في التعبير عن الغاية المرجوّة: محاولة للاتفاق على آلية لإدارة الخلافات، التي لا شك في أنها كثيرة، وجوهرية.
المسيرة إذاً في بداياتها، وهي ستشهد صولات وجولات من محادثات ستكون أشبه بجردة حساب عن أفعال السنوات الماضية. حساب أرباح وخسائر، بين أطراف خاضوا صراعات مريرة في أكثر من مكان، من لبنان إلى فلسطين فالعراق، في إطار معسكرين انتهت الجولة الأخيرة بينهما إلى منتصر ومهزوم.
كذلك يخطئ من يرى مبادرة الملك عبد الله للدعوة إلى مصالحة كهذه نابعة من حرص «جلالته» على العرب وقضاياهم. أليس مفارقة أن تأتي دعوته الأولى في هذا الشأن بعد انتصار «مغامري» حزب الله في لبنان، ودعوته الثانية بعد نجاح «مغامري» حركة حماس في غزة؟
مبادرته لعام 2007 فشلت في تحقيق أهدافها لأسباب متعددة، في مقدّمها استمرار وجود بصيص أمل لمكسب يمكن معسكر «الاعتدال» أن يحققه بوجود ثنائي بوش ـــــ تشيني في السلطة في واشنطن، وأولمرت ـــــ ليفني في تل أبيب، إضافة إلى رهانات على تغيير ما داخل السلطة في سوريا، وانقلاب على حزب الله في لبنان بقيادة فريق «14 آذار»، وضربة عسكرية في «اللحظة الأخيرة» لإيران.
أما اليوم، فقد بات المشهد أكثر وضوحاً: أميركا أكثر ضعفاً ومرهقة بأزمة اقتصادية تهدّد بنيانها، مع رئيس جديد باشر فتح قنوات حوار مع دمشق وطهران، اللتين باتت لهما اليد الطولى في العراق ولبنان، والكلمة الفصل في فلسطين. سوريا انتزعت اعترافاً عالمياً بأنها «دولة مهمة للغاية» في المنطقة، وإيران بأنها إمبراطورية إقليمية. تركيا أصبحت أكثر قرباً من معسكر «الممانعة». إسرائيل باتت في عهدة اليمين المتطرف ورئيس حكومتها المكلّف بنيامين نتنياهو سحب السجادة من تحت أقدام معسكر «الاعتدال» برفضه العلني والصارم لمبادرة السلام العربية ولحل الدولتين.
أمام واقع كهذا، تبدو الدعوة السعودية هذه المرة الفرصة الأخيرة أمام «معسكر الاعتدال» للحد من خسائره والحفاظ على ما بقي له من ثقل في إطار الترتيبات الإقليمية الجديدة، والتوصل إلى تسوية عربية تقف حائلاً دون تعاظم النفوذ الإيراني داخل دول مجلس التعاون الخليجي. التصويب المصري الأخير نحو قطر لا شك في أنه يؤدي دوراً سلبياً في هذا السياق، أولى نتائجه زيارة أميرها إلى طهران مع ما رافقها من تصريحات لا بد أنها تثير قلق الرياض.
حراك القاهرة هذه الأيام له ما يبرّره، سواء في الهجوم على الدوحة أو في التدلل على دمشق. نجح نظام حسني مبارك، برعاية إسرائيلية وأميركية، في الحفاظ، حتى الآن، على احتكاره للملف الفلسطيني الذي يُعد من ملفات الأمن القومي المصري. وهو لذلك، ربما، يرى أنه لم يخسر المعركة بعد. وإذا أضيفت حقيقة أن الواقع الجغرافي يجعله في منأى عن النفوذ الإيراني، يمكن استنتاج أنه يرى أنه لا يزال قادراً على التفاوض من موقع الطرف القوي غير المنهزم. قوة يسعى إلى تعزيزها بأوراق اعتماد جديدة من المفترض أن يقدّمها مبارك إلى أوباما خلال زيارته المقبلة لواشنطن على مذبح الحكومة الفلسطينية.
في المقابل، هناك سوريا، الطرف الأقوى في هذه المعادلة، معزّزة بطوق من التحالفات، يمتد من طهران إلى أنقرة فحزب الله وحماس، أثبت نجاعته على مدى السنوات الماضية. مصدر قلقها الوحيد هو ضمان استقرارها الداخلي، بعد التفجيرات التي شهدتها خلال فترة احتدام المواجهة. حراكها الدبلوماسي الحالي تحكمه رغبتها في إنجاح قمة الدوحة، لردّ الجميل إلى الحليف القطري.
هناك من انتحب على الحالة العربية قبل أيام، محذراً من هيمنة ثلاثي إيران ـــــ تركيا ـــــ إسرائيل على ثلاثي مصر ـــــ السعودية ـــــ سوريا. فاته أن القسمة باتت تُجرى منذ فترة طويلة على قواعد سياسية لا عرقية.