أحياؤها لا تعرف السكينةكامل جابر
لا يمكن للداخل إلى شبه الجزيرة، مدينة صور، الغائرة كيلومترين في البحر، إلا أن يكتشف عشقاً مترسخاً بين المدينة وبحرها؛ فهو حمل إليها كل شعوب الأرض وحضاراتهم خمسة آلاف عام قبل الميلاد؛ أما هي فقد جعلت للبحر المتوسطي «نكهة» ومنارة، عمادهما الحرف والأبجدية والصباغ الأرجواني. ثمرة العشق بينهما، تتبدى من خلال صُوَر تتراوح بين نماذج الفن المعماري الرائع الناطق بسيَر الحضارات وعظمتها؛ ودلائل نتأت في البرّ قلاعاً بحرية وبرية وأقواساً، وأخرى تعوم على أكتاف الشاطئ، أو لم تزل دفينة المياه. وصوَر ترتبط بحياة بحارتها، الصيادين، المتجذرة روحاً وعضوياً بالبحر، من خلال مراكبهم الماخرة عُبابه وميناءهم؛ وحركة المرفأ التجاري المتخصص باستيراد السيارات، والفنادق والمطاعم المنتشرة على الوجه البحري في أقطابه الثلاثة، الشمالي والغربي والجنوبيثمة هجين معماري باعث للحيرة في تلك المدينة، المشتق اسمها الكنعاني من الصخر «صر» ثم «صور» المتحدر من الفينيقية، وهو الأرجح؛ بعدما تنازعت نحوها الحضارات أو ولدت منها، تباعاً من المصريين والحثيين والآشوريين، مروراً بعهد حيرام الذهبي وارثاً والده أبي بعل، مورثاً حفيده عشترت؛ فالبابليين والفرس، إلى عهد الإسكندر المقدوني فالسلوقيين، ثم الرومان والبيزنطيين وجيوش العرب والصليبيين والمماليك، الذين تركوا آثارهم هنا وهناك، بنماذج لم تزل المدينة حافلة بها، من أقصاها إلى أقصاها؛ ولو تستمر حفريات التنقيب في مختلف بقع صور وبواطنها، لتبدت مدينة أو مدن أثرية مدفونة تحت أصغر المدن اللبنانية مساحة (مليون وخمسمئة ألف متر مربع).
يقرّ أبناء صور بأن صخب الحياة لا يفارق أيام مدينتهم، صيفاً أو شتاءً؛ بل تبلغ أضعافاً مضاعفة في الصيف، ارتباطاً بموسم البحر المستمر ثلثي السنة. ولا تعرف أحياؤها المكتظة بالسكان من مختلف الطبقات الاجتماعية، من أغنياء وفقراء أو «معدمين»، السكينة ليلاً أو نهاراً، إذ تنم الإحصاءات عن أكثر من مئة ألف قاطن في الأحياء المتراصة، من أبنائها وقرى القضاء واللاجئين الفلسطينيين المنتشرين أيضاً في نحو أربعة مخيمات فيها أو رديفة على تخومها: الرشيدية والبرج الشمالي ومساكنه الشعبية والبص وجلّ البحر. وكما للنهار «عجقته» في المرفأ التجاري وسوقها «القديمة» الحديثة، والإدارات الرسمية وعيادات الأطباء ومكاتب المهندسين التي يصل تعدادها إلى حد الاختناق، وكذلك في القطاعات النقابية وأهمها قطاع البحارة وصيادي الأسماك، فكذلك لليل نكهته ومرابعه؛ من حياة البحر المشغولة من صيادي الأسماك، إذ يسرحون ليلاً وفجراً لإلقاء شباكهم وسنانيرهم. إلى الفنادق والاستراحات والمطاعم والمقاهي التي لا تنام قبل ساعات الفجر، أو تصل الليل بالنهار.
وإلى هدير البحر الضارب أمواجه عند شاطئها الذي يحتضنها من جهات ثلاث، فينبعث موسيقى «تصويرية» تتناغم مع مجريات الحياة والأعمال، بهدوئها وضجيجها؛ وتسلل هذا النغم البحري بنعومة إلى الأحياء الداخلية، المتسعة في الجهتين الشرقية والغربية، الضيقة في الوسط؛ ثمة ضجيج متواصل يختلط بين «عياط» باعة السوق و«الشوفرية» عند أبوابها، وزعيق طيور النورس صائدة الأسماك الحيّة. فضلاً عن هدير محركات مراكب الصيادين ومحركات السيارات القابضة على طرق المدينة وأزقتها الضيقة في ساعات النهار، قبل الظهيرة، فتقفلها أو تخنقها.
وهناك صخب آخر للبحر، ينجم عن تلاطم أمواجه على جدران البيوت الملتحمة بالبحر، من الجهة الشمالية الغربية، في حي النصارى، أو على أرصفة الجهتين الغربية، من الفنار حتى القلعة البحرية؛ والجنوبية التي كانت حدودها مع البحر رملية بامتياز، تصنف شاطئ صور أحد أجمل شطآن العالم، حتى مطلع الثمانينيات، إذ غزته ثلة من تجار الرمول «المحمية» سياسياً، فشفطت ما شفطته وخرّبت حيزاً من الشاطئ الجنوبي. وعلى أنقاض الخراب تحقق أوتوستراد كانت له إيجابيات متعددة، أهمها أنه شرّع المدينة نحو منافذ متعددة، بعدما كان محتّماً على الداخل إليها من شارع وحيد أن يعود من حيث أتى؛ وبالتالي فتحها على تجمع سياحي واقتصادي هو اليوم الأكثر دينامية في صور، لا يهدأ ليلاً أو نهاراً.
هذا المربع الجديد، هو الأغلى على الإطلاق في صور، فسعر متر الأرض هناك لا يتدنى عن ثلاثة آلاف دولار أميركي، واستثمار المكان المفتوح على الواجهة البحرية قد يصل إلى حدود خمسة آلاف دولار شهرياً؛ وسيكون طبعاً، من حيث أسعار سلعه وتقديماته، غريباً عن قدرة الطبقة المتوسطة أو الفقيرة التي تتقاطع معه بالرؤية والعبور خلال ممارسة طقوس السباحة والرياضة عند الشاطئ القريب منه، قبل استراحة صور وبعدها.
لرواد البحر من العامة، محمية شاطئ صور الطبيعية، وهي تتميز مع قدوم الصيف بانتشار عشرات الخيم «البحرية» المكوّنة للشاطئ الشعبي، المقصود من أبناء صور والبلدات المجاورة والبعيدة، ولهؤلاء الزوار الموسميين، وخصوصاً الإناث، حرية اختيار لباسهم البحري، وثياب السباحة، من المايوه المؤلف من «قطعتين» إلى حد اللباس «الشرعي» والحجاب و«التشادور»، وكثيراً ما يتوحد هذا الشاطئ، بهذا الخليط المتناقض. أما الأسعار السياحية للخيم فهي ليست شعبية مثل الشاطئعلى الطرف البحري الآخر، يربض ميناء الصيادين. إلى الجهة الشمالية من حارة صور القديمة ومن السوق التجارية، وإلى الجهة الشرقية من حي النصارى، القديم هو الآخر، والمرتبط عضوياً بالبحر، إذ يطوّقه من الشرق والشمال والغرب. بالقرب منه، ما زال آخر «المراكبية»، إيليا بربور، يدور أمام محترفه، يزجّي الوقت، بعد انقراض صنعته، بإصلاح ما تخرب من المراكب. فآخر مرة أنجز فيها بناء سفينة بحرية سياحية، كانت عام 1999، لمصلحة وزارة السياحة ولتشارك في مهرجان البرتغال للسياحة الدولية. وسر تميزها أنه صنعها مطابقة للشكل الفينيقي المنقوش على العملة اللبنانية القديمة (خمسة قروش نحاسية) فكانت مقدمة السفينة من رأس حصان ومؤخرتها ذيل سمكة.
حال بربور في «قلة» الرزق البحري، ينسحب على نحو 300 صياد بحار، من أصل 600 مسجلين، لعبت جملة من الظروف المحيطة بهم دورها السلبي على ارتزاقهم من البحر؛ منها انعكاس الحصار الإسرائيلي الدائم لِمداهم البحري، وتعرضهم بين الحين والآخر لإطلاق نار من الطرادات المرابضة في عرض البحر. وتراجع الثروة السمكية بسبب الصيد المخالف للقانون والأنظمة المتفق عليها بعرف الصيد البحري، فضلاً عن تنامي عدد البحارة.
على هامش الميناء، يقع مقهى الصيادين المنتظمين في نقابة يبدو أنها لا توحّد هؤلاء البحارة، وتكثر انتقاداتهم لها، بسبب «الإحباط» المعيشي وتراجع الرزق. من داخل المقهى لا يُسمع غير صراخ الصيادين المتشاكسين في لعب الورق «هم هكذا باستمرار، يفشون خلقهم بلعب الورق، إذ لا شيء آخر يفعلونه عندما لا يركبون البحر أو يطلعون نحوه» يقول البحار محمد سلمان وهو يجير والده في ترميم السنانير وشباك الصياد، مثله مثل عشرات البحارة المنتشرين في المكان، أو على متن مراكبهم الراسية في الميناء يمارسون روتين «التسلية» زجراً للفراغ والملل، بترقيع شباكهم وتنظيفها. حال «النقّ» والشكوى هي عنوان اللقاء مع أي من الصيادين الذين يتحدثون عن «جفاء» بات متراكماً بينهم وبين البحر.
تمثّل السوق الموازية للميناء، من جهته الجنوبية، النبض التجاري الشعبي الأهم في صور؛ فإلى باعة الثياب والألبسة والأحذية، ثمة أسواق رديفة كسوق الصاغة والخضار والجزارين، إلى باعة متجولين ودكاكين ومتاجر البضائع المختلفة والأدوات المنزلية والعطور والـ«فو بيجو». وإن كانت هذه المتاجر متجانسة متجانبة في أكثر من زاروب وزقاق، فهناك متاجر مشابهة لها تتوزع في مختلف أحياء المدينة، تواصل مهماتها، حتى بعد انغلاق السوق في فترات المساء وانكفاء المتسوقين، وانشغال الزواريب المكتظة أصلاً بكثافة سكانية هي الأشد في صور، بناسها الذين يجوز توصيفهم بالمعدمين ومن أصحاب الدخل المحدود؛ و«فشة» خلق هؤلاء، من سنّة وشيعة، دورانهم في فلك مسجدين، أحدهما أقدم مساجد صور «المسجد القديم» بناه حاكم المدينة الشيخ عباس المحمّد النصار عام 1750 من الحجر الرملي، والآخر الذي بناه السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1928 على أعمدة غرانيتية من الحقبة الرومانية.
وإذا كانت السوق والإدارات الرسمية والخاصة والمطاعم هي التي تستقطب أبناء صور وقرى القضاء في دورة الحياة الإدارية والقضائية والتجارية والمعيشية، في فترات محددة؛ فإن المتقدمين في السن من أبناء سيدة الحرف والأرجوان، من جيل الثلاثينيات والأربعينيات وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، يتحدثون بحسرة ومرارة عن مجد النضال. المدينة التي مثّلت الحضن الرحب لحركة القوميين العرب المتنامية مع «عراب النهضة الوطنية» محمد داود الزيات (1932ـــــ1961)؛ ودارت حولها مجموعات كبيرة من الحركات النقابية والعمالية حتى صار أكثر من 300 منضو من أبناء صور في صفوفها؛ إلى انتشار الأحزاب العقائدية من شيوعيين وبعثيين وقوميين سوريين، انتفاضاً على هيمنة الزعامات التقليدية وممارساتها؛ فقدت أواسط الثمانينيات، مع القيود المباشرة للاحتلال الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد فصول من التجاوزات التي أزهقت روح الحركة الوطنية وشعبيتها السياسية؛ بريق هذا الحراك السياسي، الأنجع في تاريخها، الذي كان يصيّر المدينة وأهلها خلية نحل شَهدُها السياسة والثقافة والعلاقات الاجتماعية المتفوقة على الصغائر.
بموازاة هذا التقدم الحزبي ولدت الهيئات الثقافية والرياضية، فكان نادي التضامن الرياضي (1949)، أشهر أندية صور وأكثرها انتشاراً واستقطاباً للمنتسبين. لكن النزاعات الحزبية المحلية وسطوة بعض القوى الحزبية في الربع الأخير من القرن العشرين، تناهشت هذا النادي وتناتشته، مثلما فعلت بالعديد من الأندية والجمعيات التي فرّقتها بالخلافات، حتى بين أبناء «الصف الواحد» على غرار ما حدث لمنتدى صور الثقافي؛ ويقتصر نشاط بعضها اليوم على حلقات ثقافية شبه يتيمة أو موسمية.
أما البيوت التي كانت مفتوحة لا تميز أبناء المدينة بين مللهم المتعددة، فصارت اليوم على صورة مغايرة لحراك الشارع السياحي والاقتصادي، فالعلاقات الاجتماعية فرّقتها السياسة وانغلقت هذه البيوت على عائلاتها، تكاد لا تلتقي إلا في ظروف الحزن أو ربما في المهرجانات الانتخابية.
لم يمنع واقع العلاقات «المكتئب» في تواصل البيوتات الصورية، في ظل الانكفاء السياسي للأحزاب الوطنية والتقدمية فيها، المدينة من السهر حتى ساعات الفجر، في المنتجعات والاستراحات وصالات الأفراح والمطاعم، وعلى الشاطئ أمام الخيم الصيفية. وإذ يتقيد بعض أصحابها بتحريم تقديم الخمرة أو بيعها، لا يلتزم البعض الآخر حدوداً في إباحة كل ما من شأنه إذكاء الفرح والسهر وإحياء حلقات الرقص والغناء، مستقدمين إليها كبار الفنانين والمطربين اللبنانيين والعرب وحتى الأجانب. وعلى هامش هذا السهر واللقاء خارج البيوت، تتميز «عدوى» انتشار المقاهي الواسعة أو الضيقة، المتراوحة بين مئة أو مئتين، إذ لا إحصائية نهائية يستطيع جزمها أي من الصوريين؛ وغايتها رعاية لعب الورق ساعات طويلة تمتد أحياناً إلى الصباح. ويعزو البعض تعدادها «إلى تقهقر السياسة الجامعة والمحفزة على درء الفراغ بالثقافة وحلقات الحوار، أو إلى تنامي البطالة».
رفدت مهرجانات صور السياحية، التي توقفت خلال العامين المنصرمين وقد تعود هذا العام، بمن استضافتهم من فنانين عالميين وعرب ولبنانيين نبض الصيف، وعوضت غياب السينما التي دخلت إلى المدينة في مطلع الأربعينيات استهلالاً بسينما «روكسي» التي غابت اسماً وبناءً وعنواناً، مثلما غابت سينما «أمبير» المولودة عام 1941. ولم تعد للسينما تلك المكانة الرائعة التي تميزت بها في مستهل الستينيات، بتنافس دور «ريفولي» و«حمرا» و«دنيا» الموزعة على أحياء المدينة، لتشهد زحاماً قل نظيره راح يتراجع شيئاً فشيئاً بسبب العدوان الإسرائيلي الذي تعرضت له مدينة صور، حتى أقفلت هذه الدور قبل أواسط الثمانينيات. وفي صور اليوم سينما يتيمة «AK2000» تشهد إقبالاً لافتاً في موسم الأعياد، لكنه يبقى محدوداً ويتراجع صيفاً مع «هجمة» الناس نحو البحر والسهر في رحابه.


... ملتقى جنوبي

ميز موقع صور البحري، المدينة في عهدها الحديث تماماً مثلما ميزها قديماً؛ وتظل قبلة الجنوبيين من عشرات البلدات والقرى التي تحدها من الشرق والشمال الشرقي فوق الأوتوستراد البحري الذي يصلها بعد 40 كيلومتراً شرقاً، بعاصمة الجنوب صيدا، وبنحو عشرين كيلومتراً غرباً ببلدة الناقورة، آخر الحدود اللبنانية البحرية والبرية لجهة فلسطين المحتلة... وعلى مسافة موازية لبعدها عن صيدا، تبعد عنها النبطية وكذلك بنت جبيل.
ولقرب مقر قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة في الناقورة، من جهة؛ ولأهميتها السياحية والأثرية والتراثية من جهة ثانية، ولانفتاح أهلها السياحي والتجاري وعدم تقيدهم بموانع ومحرمات «دينية» من جهة ثالثة، مثّلت صور أيضاً قبلة للقوات «الأممية» التي يحلم قادتها وجنودها وموظفوها، بارتياد شاطئها ومرابعها السياحية، لا سيما استراحة صور، والمطاعم ودور اللهو للتمتع والنقاهة، ما رفد الدورة الاقتصادية بمدخول آخر من العملة الخضراء.