قاسم عز الدين *إذا استثنينا لغة الصدح «بجهود السلام» الذائعة منذ عام 76، تكاد تجمع الأبحاث الجدية في «المسألتين اليهودية والفلسطينية»، على أن وهم الدولتين فات أوانه بعد محرقة غزة. فأجهزة «المجتمع الدولي» الخائرة «بتعثّر عملية السلام»، منذ كامب ديفيد الأولى قبل ثلاثين عاماً، غدت أقل حماسةً لتصوراتها البدائية، ولا تعد بإضافة جديدة. وما تصريح نائب الرئيس الجديد بـ«الفرصة الضائعة»، غير تعبير دبلوماسي عن الاضطراب في الإدارات الخارجية الأميركية والأوروبية. فالكثير من كبار الموظفين في هذه الإدارات يقولون إن استمرار عملهم باتجاه حل الدولتين، هو محض إداري إلى الخبط عشواء أقرب. ولا تبدو الأبحاث الجدية غاوية تمحيص في راهن الحكومة الإسرائيلية، وفي فحص نياتها و«قابليتها للسلام»، بل تحك تحت القشرة البرانية، على كيانية الدولة اليهودية، إذ أثبتت، على قولهم، في محرقة غزة، عزمها على إبادة شعب لا مكان له بجوار الدولة اليهودية. كذلك أثبتت المحرقة، على نحو بيّن أن الشعب الفلسطيني ليس إثنية يمكن إبادتها واندثارها، وأن السلطة الفلسطينية الغارقة في قعر المراهنة على حل الدولتين، لا حول لها ولا باع، في التفاوض وفي المقاومة سواء بسواء.
والحال، لا تذهب الأبحاث النقدية في إشكالية الدولتين، باتجاه حل آخر. فهو شأن أصحاب القرار من العرب والمسلمين، وفي مقدمتهم المقاومة الفلسطينية، الممثّلة بـ«حماس» و«الجهاد» والفصائل المقاتلة. إنما لا يظهر على هذه المقاومة علامات الإفادة من محرقة غزة، في البحث عن حل بديل لوهم الدولتين. ولا يبدو عليها استعداد لإشهار حل صوَري تضمره وتُبطن. بل تشي أفكارها المتداولة عن «التهدئة» أو عن «إعادة بناء منظمة التحرير» وغيرها، أن خلاف «حماس» و«السلطة» هو خلاف سلطة، أكثر مما هو خلاف سياسات تحرر واستراتيجيات. وما قول القيادي البارز محمود الزهار بأولوية «تمثيل حماس في المنظمة بمستوى تمثيلها الشعبي»، غير تغليب الآني على الاستراتيجي، وهو دليل على أن المقاومة لا تقرأ في صفحة تاريخية جديدة، أعمق من الخلاف السياسي الفلسطيني، كتبتها محرقة غزة. والحقيقة أمَرُّ وأدهى. فـ«حماس» تُمسك بمسؤولية المقاومة، إنما تشيح بوجهها عن أهداف المقاومة في مشروع التحرر الوطني والسياسي والاجتماعي. أو هي، على الأصح، أسيرة مأزق يخوّل المقاومة شرعية تكفي المؤمنين شر مشروع التحرر. ذلك أن «حماس» تتخذ الفقه الإسلامي عقيدة لرفض الاحتلال والمقاومة، عوض اتخاذ العقيدة الإسلامية فقهاً للتحرر وبناء دولة فلسطين الحرة مكان اسرائيل.
ولا مندوحة من استراتيجية تحرر ومشروع بناء الدولة، فالمقاومة مهما كانت طبيعتها وحجمها، ليست هدفاً أو استراتيجية، حتى وإن كانت الاستراتيجيات والأهداف بدون مقاومة فاعلة حبراً على ورق. لكن تغصّ المقاومة الفاعلة، على غير هدى استراتيجية التحرر، بعلقم التوازنات الآنية «الواقعية»، وتعلق في القمقم، بينما تهديها استراتيجية التحرر إلى مقاومة عصب الاحتلال ومقوّماته العسكرية والأيديولوجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية...
ولا ريب أن عصب الاحتلال في فلسطين، ومقوّماته، هو في المحصّلة الأخيرة استعمار استيطاني أوروبي بدايةً، ثم أميركي ـــــ أوروبي ودولي تالياً. والمفارقة أن هذا الاستعمار الاستيطاني تحقق أثناء إزالة الاستعمار بعد الحرب الثانية. وذلك لتعويض أوروبا عن استقلال مستعمراتها في المنطقة العربية والشرق الأوسط. وقد حرصت أوروبا على تقييد الدول الناشئة باستعمار جديد في فلسطين، هو قيد استراتيجي أساس التبعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ثم السياسية مجدداً. فبيت القصيد ليس فلسطين وحدها، إنما تشريد الشعب الفلسطيني فدية الاستقلال السياسي لدول المنطقة، ووضعها أمام خيار استكمال إزالة الاستعمار في أولوية بناء استقلالها واندماجها الإقليمي، أو تبعيتها للدول الأوروبية وإقامة سلطات محلية تحفظ مصالحها في إدارة التبعية.
ولم يصمد الاستقلال السياسي لبلدان المنطقة أكثر من عقدين ونيّف، حتى نشأت داخل السلطات الاستقلالية، طبقات سياسية سلّمت بالتعايش مع الاستعمار الجديد ومشاركة «الأقلية البيضاء» في فلسطين المحتلة، سياسات التبعية واستراتيجياتها. فتذوقت بالبياض وتعرّت فوق ركام انهيار مجتمعاتها، على خلاف أكثر حكام «جمهوريات الموز» فساداً في أفريقيا، الذين خجلوا من التعايش مع جمهورية الفصل العنصري قبل استقلالها السياسي.
وقد سهّلت منظمة التحرير الفلسطينية، المحظية بـ«بالقرار الفلسطيني المستقل» عام 73، على الحكام مسارهم، إذ دخلت فيه وتبنت سياساته منذ «البرنامج المرحلي». وهو مسار سلطة في كل بلد، عوض مسار بناء الدولة المستقلة عن التبعية لـ«النظام الدولي»، ما يفترض بالأولوية استكمال إزالة الاستعمار. وهو أيضاً مسار إدارة التوازنات «الواقعية» ومصالح السلطة في الحكم والتبعية، عوض مسار استراتيجية التحرر والاندماج الإقليمي. ولا شك أن المقاومة الفلسطينية المخنوقة بين فكَّي مسار شراكة السلطات والاحتلال و«النظام الدولي»، لا تستطيع أن تحل محل النُخَب الثقافية والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مواجهة سلطاتها لبناء دولها واندماجها الإقليمي، لكن تستطيع الانشقاق عن هذا المسار وعدم الإسهام بتنظيف ذنوب السلطات، في تخليها عن استكمال إزالة الاستعمار في سبيل تحرر مجتمعاتها وبلدانها. فهذا التخلي جعلها مشاركة لـ«النظام الدولي» والاحتلال، في إبادة الشعب الفلسطيني وفي قهر شعوبها على السواء. ومن نكد الدنيا أن السلطات تتبجح بـ«تضحياتها» أمام شعوبها، في «نصرة القضية الفلسطينية»، مثلما تتبجح بـ«إنجازاتها» التنموية والديموقراطية.
وفي عصب الاحتلال ومقوّماته في فلسطين، الحل الأوروبي ـــــ الدولي لـ«المسألة اليهودية» في الغرب. وهو حل اتخذته الدول الأوروبية «العلمانية الديموقراطية» لإعادة اليهود إلى موطن سكنوه قبل أكثر من ألفي عام حسب الأساطير الدينية. وقد تخلت هذه الدول «الديموقراطية العلمانية» عن مواطنيها الذين تعرضوا للاضطهاد الديني في أوروبا، عوض احترام حق المواطَنة، التي تدّعيها، بإعادة حقوقهم وممتلكاتهم في بلادهم. والأدهى أنها أقرّت بعجز نظامها الديموقراطي العلماني عن حماية مواطنيها اليهود من العداء للسامية في بلادها، سابقاً وراهناً ومستقبلاً ومن قديم الدهر وإلى الأبد. إنما استعمار فلسطين وتبعية بلدان الشرق الأوسط لـ«النظام الدولي»، يقتضيان مزج العلمانية بالأساطير الدينية وخلط حق المواطَنة في داخل مجتمعها بـ«حقها» في القرصنة بالخارج. فالحركة الصهيونية نواتها من اليهود المتعاملين مع كل النُّظُم السياسية، بما في ذلك النظام النازي. ولو اقتصرت على اليهود في العالم لما قامت إسرائيل ولا بقيت واستمرت 60 عاماً.
ولا مفرّ من أن تأخذ المقاومة الفلسطينية على عاتقها الاستراتيجي، في فلسطين، حلاً أرقى من الحل الأوروبي للمسألة اليهودية وأعدل. وهو حل مستقى من تاريخ المنطقة العربية والإسلامية لا من التاريخ الأوروبي، يحفظ حقوق اليهود كأقلية يهودية من باقي الأقليات و«للمواطنين» اليهود، حقوق باقي «المواطنين». وفي هذا الأمر ليس على المقاومة ابتداع حل لـ«القضية الفلسطينية»، فالاستعمار حلّه التاريخي إزالة الاستعمار. لكن عليها إبداع حل لـ«المسألة اليهودية» في فلسطين، ليس لليهود، بل باستنباط مشروع طبيعة الدولة الفلسطينية الحرة ونظامها السياسي وشكل الحكم والاندماج الإقليمي. ومهما يكن من أمر، وعلى الرغم من «حق العودة» ليهود العالم حسب الأساطير الدينية، توجد اليوم في فلسطين أكثرية عربية واضحة تتألف من 16 ديناً ومذهباً وطائفة، بينها يهود عرب سمحت السلطات العربية بتهجيرهم إلى فلسطين المحتلة «خدمة للقضية الفلسطينية»، وبينها الشعب الفلسطيني الذي شردته قوى «المجتمع الدولي» والاحتلال الصهيوني بالتواطؤ مع السلطات العربية ثم مشاركتها. وقد عاشت هذه الأطياف أبد الدهر في منطقة «متخلفة»، بينما ذبحت أوروبا «المتقدمة» معظم أطيافها وطوائفها، ثم هجّرت مواطنيها المتخلفين بالدين،.
لذا ليس الأهم إمكان تعايش هذه الأطياف والطوائف في فلسطين، بل الأهم إزالة الاستعمار وطبيعة الدولة الصهيونية. فهذه المسألة لم تطرح سابقاً للبحث الجدي وبلورة الحلول، لأن استراتيجية التحرر في فلسطين، كانت وما زالت مجرد «حوربة». فالصيغة التي أدخلها «أبو حاتم» إلى أدبيات «فتح» بتأثير «الحزب الاشتراكي الموحّد» (ميشال روكار) هي «فزلكة» ذهنية بين غرائبيات «أبو عمار». وشعار «الجبهة الديموقراطية» الذي سجلت فيه سبقاً في استنباط «الدولة الديموقراطية» هو شعار إنشاء لا يضاهيه غير سبق الانقلاب عليه في «تنظير» السيد نايف حواتمة لما يسمى «البرنامج المرحلي» وهو وهم الدولتين، بل وهم السلطة تحت أعقاب بارودة الاحتلال.
ولا ريب أن محرقة غزة أقفلت مرحلة الرهان على وهم الدولتين، وفتحت صفحة تاريخية جديدة، وهي إن لم تتضح بعد في فلسطين والعالم العربي والإسلامي، تتضح في أوروبا والعالم، حيث صناعة القرار وعصب الاحتلال، ما بقيت النُخب والقوى العربية والإسلامية منهمكة بغرائزها البدائية. قسمت محرقة غزة تلك المجتمعات إلى قسمين لم تشهدهما «القضية الفلسطينية» في تاريخها. فالقسم المؤيد للتحرر في فلسطين يمكن أن يتلاشى ما لم يُتَفاعَل معه سريعاً في نشاطات عملية مثل: فك الحصار، إعادة الإعمار، محاكمة مجرمي الحرب، المقاطعة، والأهم وقف العمل بالشراكة الأوروبية ـــــ الإسرائيلية وعدم استخدام دافعي الضرائب لتمويل دولة مجرمة. وهذا الأمر لا يتم بـ«الحوربة» إنما يتم على هدي السعي لبناء استراتيجية تحرير ومشاركة القوى العالمية في بحثها. وهي قوى تحتاج اليوم إلى سلاح «حل المسألة اليهودية» لاستخدامه في بلادها بمواجهة قوى عظيمة التأثير في أجهزة الدول والرأي العام والإعلام و«الحركة الثقافية». ولا غرو أن المقاومة الفلسطينية لا تستطيع اليوم أن تتفاعل مع هذه القوى، فهي تتفاعل في أحسن الأحوال مع الجاليات الإسلامية غير القادرة بدورها على أن تتفاعل بمستوى نتائج محرقة غزة. لكن تستطيع المقاومة الفلسطينية، بقليل من الحنكة والدراية والمسؤولية، رعاية بحث القوى العالمية عن بديل «لحل الدولتين»، وبديل «لحل المسألة اليهودية»، من دون أن تتبناه بالضرورة. وليكن على شكل مؤتمر مخصص لبحث البدائل، في بيروت أو إسطنبول أو حتى في غزة، تشارك فيه القوى العالمية بكثافة ونوعية بحث وتمثيل.
كشفت محرقة غزة عن أن وهم الدولتين هو مشروع إبادة الشعب الفلسطيني، تتشارك فيه قوى «المجتمع الدولي» والاحتلال الصهيوني والسلطات المحلية. لكن محرقة غزة رفعت من درجة مسؤولية المقاومة أمام شعوب العالم المستعدة لنصرتها. فلا تستطيع المقاومة أن تنشد النصر كأن المحرقة شبه «معركة الكرامة» عام 64، في مسار منظمة التحرير نحو السلطة.
* كاتب لبناني