من دون كلام، ولا أية قدرة على الإشارة يتواصل الرضيع مع والدته، وذلك من خلال لغة مشتركة خاصة بهما وحدهما، ومن خلال هذه اللغة تتمكن الأم من التعرّف إلى حاجات الابن، وفي المقابل يستطيع الطفل أن يفهم الرسائل التي تريد والدته أن توصلها إليه. كلنا ندرك هذه الحقيقة، ولكننا لا نزال نسأل عن رموز هذه اللغة، متى يبدأ استخدامها؟ وكيف يتجاوب الطفل معها؟

دعاء السبلاني
«قبل اللغة «المنطوقة» كوّنت لغة خاصة لها علاقة بالحواس، وخاصة حاسة السمع كي أستطيع أن أعرف حاجات ابنتي وأوصل من خلالها رسائل تفهمها هي بدورها». هكذا تبدأ ليلى سالم حديثها عن اللغة المشتركة بينها وبين طفلتها الأولى سالي، وتضيف: «أعمل مدرّسة، وأعود إلى البيت في الثانية بعد الظهر، لهذا كنت أبقيها عند جدتها، لكنها لا تكفّ عن البكاء حتى أصل إلى المنزل. وذات مرة لاحظت والدتي أنني عندما أطرق الباب تتوقف سالي عن البكاء قبل أن تراني، وبعد ذلك تعمدت أن أطرق الباب بقوة كي أقول لها إنني وصلت، ثم أتابع عملي المنزلي من دون أن أكون بجانبها». في المساء، عندما كان يحين وقت النوم، كانت ليلى تغني لسالي، «إنها طريقة تعتمدها معظم الأمهات، لكن لا يتجاوب معها كل الأطفال. كنت أقترب من سالي من دون أن أحملها وأغني لها «يللا تنام» فتنام فعلاً». تتذكّر ليلى كيف كانت تُسكت ابنتها عن البكاء وهي تحرك زجاجة الحليب فتصدر صوتاً تفهم منه الطفلة الجائعة أن طعامها جاهز.
تؤكد الدكتورة هدى داغر، معالجة نفسية تحليلية واختصاصية في علم النفس العيادي، أن «العلاقة بين الأم والطفل تبدأ في مرحلة الحمل، واللغة التي يفهمها الأخير ليست لغةً على مستوى العقل، بل على مستوى الإحساس، لذلك تشعر الأم أحياناً بأن طفلها يتحرك في رحمها ـــــ يرفس برجليه مثلاً ـــــ عندما تكون متعبة أو متوترة، وكأنه يتعب ويتوتر هو أيضاً». وقد ترغب الأم بمولود ذكر، لكنها ترزق أنثى، فنلاحظ أن الابنة قد تقوم بحركات الفتيان كأن تلعب بألعابهم مثلاً...».
بعد ولادة الطفل تتكوّن لغة تجمعه بوالدته، وهي لغة عمادها الحواس «تلمس الأم طفلها، وهو يشمّ رائحتها ويسمع صوتها، فمن خلال نبرة الصوت مثلاً، تنقل الأم إلى طفلها شعور ما» تقول داغر التي تشبّه العلاقة بين الأم والطفل بعلاقة الإنسان مع الموسيقى، إنّ الغش في هذه العلاقة أمر صعب، فالطفل لا يفكّر بعقله، بل بإحساسه الذي لا يمكن أن يُزيَّف.
نسرين إبراهيم تعتمد على «نغمة» صوت أو بكاء طفلها ريان لمعرفة ما يحتاج إليه أو يشعر به من جوع أو ألم أو ملل، وتقول: «أميِّز بين أصوات بكائه، وألاحظ أن نغماتها تختلف من حاجة إلى أخرى، ومن خلال التكرار، فهمت معنى كل بكاء، فعندما يكون جائعاً يبدأ نواحه بصوت خافت ثم يعلو ببطء، وإذا كان يعاني ألماً ما (المغص مثلاً) يبدأ فجأةً بالصراخ بصوتٍ عالٍ ولا يتوقف أبداً، وخاصةً أثناء الليل، وأحياناً يقبض على يديه أو يحمرّ وجهه. أما إذا كان الصوت أنيناً فأعرف أنه قد يكون متعباً ويحتاج إلى النوم أو يشعر بالملل ويريد أن يلعب. هذه الأصوات أجدها بمثابة رسائل من ريان ليعبّر لي عمّا يحتاج إليه». ريان يعبّر بالبكاء، ونسرين ترد عليه بالإشارات، فـ«إذا أردتُ منه أن ينام، أداعب شعره وأمرر يدي على يديه، وقد اعتاد هذه الحركات حين يريد النوم. وأعبّر عن حبي له من طريق تحريك رأسي يميناً ويساراً وأقول له: أحبك عدة مرات، وعندما أطلب منه أن يحبني يكرر حركتي».
لغة الكلام، تقول داغر، هي أيضاً توصل رسائل إلى الطفل، فعندما تقول الأم لطفلها: «يا حبيبي» أو «أحبك»... فإن إحساس الحنان والمحبة يصل إليه، لكن عندما تصرخ الأم بطفلها ليتوقف عن البكاء، لا تصل إليه فقط رسالة: «أسكت»، بل رسالة: «أنا لا أتقبلك»، أو يصل إليه إحساس بأنه ليس محبوباً. ويصدق الطفل كل ما تقوله والدته. وتشير المعالِجة النفسية إلى أن الأطفال الذين يعانون بعض المشاكل مثل العصبية الزائدة أو التبوّل اللاإرادي أو تراجع في الدراسة، هم أطفال قلقون، لأن الصورة التي أوصلتها إليهم الأم عن ذواتهم هي صورة سلبية.
كيف يتجاوب الطفل مع «رسائل» أمه؟ تجيب داغر بأن «هناك عدة أساليب يوصِل الطفل من خلالها أحاسيسه إلى والدته، ومنها تعابير وجهه وحركاته، قد يبتسم أو يحرّك يديه ليعبّر عن فرحه، ويبكي ليعبّر عن حزنه لغياب والدته، لكن إن طال انتظاره وتأخرت عنه لعدة أيام فإنه لن يرغب برؤيتها ويعبّر عن ذلك عندما يرفض أن ينظر إليها، إذ يعتقد أنها لم تعد تحبه وتخلت عنه. والمرض أيضاً هو من الرسائل التي يبعثها الطفل إلى أمه ليعبّر عن انزعاجه أو حزنه». وتتحدث داغر عن «الإيماءات التي يتعلمها الطفل من الأم، مثل تحريك الرأس للتعبير عن المحبة. والجدير بالذكر أن بعض الأطفال يربطون الأشياء ببعضها. مثلاً: يربطون صوت تحريك زجاجة الحليب بالطعام، وصوت دق الباب أو رنين الجرس بلقاء والدتهم».


تطوير الحواسّ

تقول داغر إن دور الأم يكمن في تأسيسها لغةً مشتركة تساعدها على معرفة حاجات طفلها وتساعد طفلها على فهمها من جهة وعلى فهم ذاته والتعبير عن ذاته من جهة أخرى. وتنصح داغر الأم بتعليم طفلها كيفية استعمال حواسه وأن تستعمل حواسها في المقابل، فتلمسه وتحضنه وتكلمه، لأن الأطفال الذين لا يُعانَقون أو يُكلَّمون يتأخر نموّهم العقلي والعاطفي. وتشير إلى أن مهمة الأم الأولى هي أن تكون مرآةً ليرى الطفل صورته، لأنه لا يعرف إن كان جميلاً أو قبيحاً، ذكياً أو غبياً... فالأم هي التي ترسم للولد هذه الصورة، ولا بد أن تكون إيجابية كي لا تهتزّ ثقته بنفسه. لذلك تنصح داغر كل أم تعلم أن كل ما توصل إلى طفلها من رسائل سيعود إليها مثل الصدى، فإذا كانت الرسالة إيجابية تكون ردة الطفل مثلها والعكس صحيح.