ريمون هنودليس من قبيل الصدفة أن تكون بركات الحركة الوسطية قد حلّت على المناطق ذات الأكثرية المسيحية فقط. وهذه الظاهرة بحدّ ذاتها هي خبطة الموسم. أمّا السؤال الطارح لنفسه بإلحاح: هل السياسات التي انتهجها العماد عون منذ عام 2006 حتى الآن ستقلب الموازين في المناطق الواقعة ضمن بقعة المدفون ــــ كفرشيما؟ هل المواطن في تلك المناطق سينتخب لوائح العماد عون مجدداً؟ أم أنّه سيعود إلى الزمن الذي ساد أثناء نفي الرجل وينتخب لوائح العائلات التقليدية والإقطاع؟ عملياً كلّ التطورات وكل الوقائع تشير الى أنّ معارك انتخابية ضارية ستدور رحاها في كل بلدةٍ وقريةٍ ومنطقةٍ وشارعٍ وزاروب من البيئة المسيحية حتى داخل المبنى الواحد والمنزل الواحد.
ومن يعتقد أنّ المعركة لن تكون بين الأحزاب الراديكالية المسيحية والعائلات والإقطاع من جهة، وتيار العماد عون من جهة أخرى، فهو لا شك مخطئ.
العماد عون أزعج الكثيرين، وهذا شيء جيد في عالم السياسة. وبما أنه أزعج الكثيرين، بات يتعين عليه العودة إلى خطابه العلماني الذي ساد قبل عام 2003 والتخلي عن شعارات ومصطلحات ومفردات لا تعود بالخير على مشروع الإصلاح والتغيير، كـ«عون زعيم الأغلبية المسيحية»، أو عون «زعيم مسيحيي الشرق»، وإنشاء لقاء وطني لبناني علماني عوضاً عن لقاء وطني مسيحي مبتورة أوصاله الوطنية.
وعلى العماد عون ألا يتبع قاعدة متى آمن غيرنا بالتغيير نشرعْ ساعتئذٍ نحن في البدء به. على كلٍّ، فإنّ المسيحيين تقع على عاتقهم مسؤولية التغيير قبل سواهم.
لقد أزعج العماد عون البطريرك صفير وأحرجه حين زار دمشق بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، والانسحاب هذا كان الشرط الذي وضعه البطريرك صفير لزيارة سوريا، وحتى الآن لم يُقدِم عليها. وعموماً فصراع عون ــ بكركي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عام 1988، وفترة حرب التحرير والإلغاء، عندما تمكن عون من سلب بكركي الكثير من وهجها السياسي وسحب البساط من تحت قدميها، وهذا أمر لم تعتده الكنيسة عموماً في لبنان، وخاصةً الكنيسة المارونية، لأنّه على مرّ التاريخ، كان اهتمامها بالشؤون السياسية يفوق كل الاهتمامات الأخرى، وحقبة البطاركة المعوشي وعريضة والحويك وأيضاً حقبات ما قبل عام 1920 وخاصة أيام البطاركة دويهي ومسعد وحبشي، خير شاهد على علاقة الكنيسة المباشرة بالشؤون السياسية.
والعماد عون، المتمرد بطبعه، تمكّن من كسر هذا الروتين بدرجة كبيرة في عهد البطريرك صفير، بدليل أن الكنيسة لم تتمكن من استعادة الجسم المسيحي إلى أحضانها، وخاصة بين فترة 1990ــــ2005 نتيجة اعتبار نسبة سبعين بالمئة منهم أن مرجعيتهم أضحت في المنفى الفرنسي طوال هذه المدة، فضلاً عن أن قسطاً لا بأس به من المسلمين حينها كان متعاطفاً مع عون، لكونه ابن المؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى، وكونه نأى بنفسه عن الميليشيات إبان الحرب الأهلية.
ومما لا شك فيه أن الكنيسة تسعى من خلال الانتخابات النيابية المقبلة إلى استعادة بريق الماضي. لقد أزعج عون إمبراطور المتن السابق ميشال المر الذي تسيّد الشارع المتني من عام 1992 حتى عام 2005. وزوبعة انسحاب المر من كتلة الإصلاح والتغيير، بحجة أنّ عون وقف لفترة مديدة حائط صدّ أمام وصول العماد ميشال سليمان إلى القصر الرئاسي، لم تعبّر عن صورة الوضع الحقيقي المتأزم بين الرجلين، وخاصة أن المر يسعى إلى استعادة تاج مملكة المتن. وعلى كلٍّ، ما من قصة حبّ وقعت بين اثنين قويّين واستمرت طويلاً، إلا كانت النهاية دوماً الطلاق بالثلاثة ونشوب معارك كسر
عظم.
لقد أزعج العماد عون العائلات التقليدية والإقطاع في كسروان عام 2005، فقطع الطريق أمام رموزها، وحال دون بلوغهم عتبة البرلمان. ولا شك في أن العائلات التقليدية والإقطاعية في كسروان، بدأت حملتها قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر تحت عوان المقولة الكسروانية ــــ الشهيرة المدغدغة للشارع «غريب في كسروان، ابن حارة حريك»، أو «لهذه الأرض أصحابها».
وحتى رئيس الجمهورية ميشال سليمان انزعج من العماد عون، ولا شك أنّه نفر وسخط وامتعض من رؤية مشهد السجاد الأحمر يحطّ على أرض مطار دمشق الدولي لتطأه قدما «خصم سوريا الشريف».
لقد أزعج العماد عون الأحزاب المسيحية الراديكالية بعدما حقق تحولاً قوياً داخل الشارع المسيحي تجلّى بجعل قسط لا بأس به من المسيحيين ينفتح على كل ما هو مسلم ممانع أو عربي ممانع، ولا شك في أنّ شعبية عون تدنت، وإن بنسبة ليست بكبيرة، لذلك تحاول الأحزاب اليمينية المسيحية استغلال الظرف ومحاولة توسع دائرة التدني القليل من شعبيته، عبر محاولة إعادة بث سيناريو الانتخابات النيابية عام 1968، وبالتحديد محاولة إعادة المشهد الذي حدث في كسروان في ذلك العام، عندما تمكّن الحلف الكتائبي الشمعوني من الفوز على النهج الشهابي الذي كان آنذاك يمثّل الاعتدال اللبناني والمسيحي. وقد نجحت يومها جماعة الحلف في غسل دماغ شريحة هامة من المسيحيين والتغرير بها عبر الإيحاء إليها أنّ الرئيس شهاب منضوٍ في أحلاف لا تخدم الصف المسيحي والمصلحة المسيحية.
والمحصلة النهائية عام 1968 كانت أنّ الخدعة انطلت على المواطن في كسروان وأُسقطت كتلة الرجل الذي حوّل جونيه من مجموعة بلدات صغيرة متواضعة، إلى مدينة لها مكانة كبيرة ووزن مرموق. ويراهن اليمين المسيحي اليوم على أمرين: إلحاق لبنان بمجموعة الأنظمة العربية المذعنة الراضخة وطمس هويته وتغيير معالمه والقضاء على مناعته، عبر حقن نسيجه الاجتماعي بهورموناتٍ «ساداتية» منشطة، والاتكال هنا على «براعة» الفكر السياسي الجديد لقدامى القوميين العرب المستورد حديثاً، أو ـــــ إذاء باء ذلك المشروع بالفشل، ولم يصل الى خواتيمه السعيدة ـــــ يبقى الرهان، بطبيعة الأحوال، على مشاريع الكانتونات والفدرالية ساري المفعول.
لا شكّ أن المعركة ستكون حامية الوطيس في جزء كبير من جبل لبنان، والجواب سينتظره الجميع على أحرّ من الجمر صباح الثامن من حزيران 2009.