أنطوان بعقلينيفي القرية الشمالية النائية، استفاق أبو مرعي باكراً أكثر من عادته. فجر ذلك اليوم الممطر، حاول عبثاً إضاءة الغرفة، فإذا بالكهرباء كالعادة مقطوعة. استعاذ من الشيطان وحمل شمعته ومضى إلى الحمّام ليغسل وجهه، فإذا بالمياه كالعادة مقطوعة. كتم أبو مرعي غيظه ولبس ثيابه بسرعة وركض باتجاه الحافلة التي ستقلّه ورفاقه إلى بيروت للمشاركة في المهرجان الكبير.
انحدرت الحافلة باتجاه الساحل بعدما تلا سائقها كل صلواته، وكانت تترنح مزمجرة وهي تصعد من حفرة لتهبط في أخرى، وهكذا دواليك، حتى وصلت إلى الطريق الساحلي.
على مفرق هذا الطريق، وقع نظر أبو مرعي على «الأفندي» الذي أخذ منه «النصيب» الأسبوع الماضي ليغضّ الطرف عن مرعي الذي نسي أن يضع الحزام، فرمقه هذا بنظرة غاضبة مهددة دفعته فوراً إلى إشاحة النظر.
وصلت الحافلة إلى مشارف الدورة، وهبّت عليها النسيمات البحرية الدافئة حاملة معها ما لذّ وطاب من روائح «جبل الدورة العظيم»، ثم مرت بالقرب من مركز الضمان الاجتماعي، فتذكر أبو مرعي ساعات انتظاره الطويلة في الصف عندما حضر في المرة الأخيرة إلى مركز الضمان في منطقته لقبض بدل الدواء، وكيف أن «الباش أفندي»، أي الموظف المسؤول، انهال عليه وعلى رفاقه بما لذّ وطاب من بنات شتائمه، لأن أحدهم جرؤ وسأل سؤالاً يتيماً واحداً، وسأل أبو مرعي نفسه إن كان سيصدف وجود هذا الموظف بقربه في ساحة المهرجان؟
وبوصول الحافلة إلى مشارف مكان المهرجان، وقبل أن تتوقف، لم يتمالك أبو مرعي نفسه فقفز كالسهم منها صارخاً بأعلى صوته: سيادة ـــــ حرية ـــــ استقلال.
وعاد أبو مرعي مساءً إلى قريته قرير العين وهو ينعم بسيادته وحريته واستقلاله.
مليون في هذه الساحة ومليون في تلك!