كلّما ابتعد عن وطنه ازداد منه اقتراباً. إنّه كاتب مسكون بالأمكنة، من فاس حيث نشأ على فنّ الحكي، والقاهرة التي شحنت وعيه السياسي، إلى باريس شرفته المطلّة على العالم، وبروكسل مكان إقامته الحالي... رحلة فريدة تستدرج الحنين، وتعبق بـ«حيوات متجاورة»، كما في روايته الجديدة الصادرة عن «الآداب» و«الفنك»
خليل صويلح
أينما ذهبنا إلى القاهرة أو دمشق أو باريس أو لندن فسنصادفه بابتسامته العذبة ولهجته المغربية المطعّمة بنبرة من المشرق، وحضوره الشفيف الذي سرعان ما يلغي أية حواجز مفترضة. نبادره: «كأنك من دون وطن؟»، يجيب ضاحكاً: «لم أعد أفرّق بين المنفى والوطن، وأزعم أنني أنا، أنا، داخل الوطن أو خارجه». يشرح الفكرة: «لا أعيش حالة المنفى، إنّها إقامة تثري وتضيف إلى وجودي. الإقامة بعيداً عن الوطن الأصلي، تجعله أقرب إلينا».
هذه المرّة التقيناه في الكويت، خلال مشاركته في ندوة عن الرواية العربية. لا تنفصل صورة محمد برادة الناقد، عن صورته روائياً، من دون أن ننسى بالطبع، تلك السخرية اللاذعة التي تسم شخصيته، إضافةً إلى قدرته المدهشة على الانخراط المباشر في مباهج الحياة بروح شبابية مغامرة.
مدينة فاس المغربية بحضورها الأسطوري كوّنت ملامح تجربته الأدبية، واهتماماته الثقافية والسياسية. في هذه المدينة التي انتقل إليها طفلاً ـــــ إثر موت والده وزواج أمّه ـــــ عاش في كنف خاله، وتعلَّم في مدرسة عربية، وتفتحت مداركه على مناخات وطقوس ولهجات، لم يألفها في مدينة الرباط. «فاس صورة أخرى للأندلس بموسيقاها وحواريها وطقوسها المبهجة. في هذه المدينة التقطتُ سرّ الحكي والسرد، فقد كان خالي حكواتياً من طراز خاص».
في الرباط التي سيعود إليها في سنّ التاسعة، سوف يستيقظ حسّه السياسي باكراً في بلاد تخضع للاستعمار الفرنسي من جهة، وسلطة ملك مستبد من جهة ثانية، إضافة إلى حركات نضالية تسعى لخلق فضاء آخر للبلاد. هذه الصورة ستكتمل ملامحها في قاهرة منتصف الخمسينيات. الطالب المغربي الشاب، وجد نفسه في خضمّ الأفكار الصاخبة والتحولات الفكرية والثورية التي كانت تعيشها مصر عبد الناصر، وإذا به يكتشف عالماً موّاراً بالحياة والحراك السياسي والأدبي. «القاهرة عتبة مفصلية في حياتي، ففي هذه المدينة، عشت التعدد اللغوي والشفوي، وسحر الأفلام المصرية، والعلاقات العاطفية الأولى، وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، والمكتبات، وطه حسين».
هذه الفترة سيرصدها محمد برادة في محكيات تحت عنوان «مثل صيف لن يتكرّر» (الفنك ــــ 1999) بمزيج من النوستاليجيا والاعترافات والطرائف والمفارقات التي لن تُمحى من ذاكرته، كأنها شريط بالأبيض والأسود. ثنائية التذكّر والنسيان هي جوهر كتابات محمد برادة الروائية. هكذا تتواتر الأمكنة والأشخاص والذكريات، بوصفها عتبات أساسية في مسيرته الشخصية والإبداعية. فبعد عودته من القاهرة، مطلع الستينيات، متحمساً لأفكار ثورية تتمرد على الماضي والموروث، عمل في إذاعة الرباط ليُطرد منها بعد ثلاث سنوات. كان يكتب أيضاً في الصحافة المغربية مقالات سياسية غاضبة، أدّت به إحداها إلى الاعتقال على يد الجهاز الأمني الذي كان يحكمه الجنرال محمد أوفقير. يقول متحمساً: «كنا نحمل أفكاراً يسارية مناهضة لدكتاتورية الملك الحسن الثاني، وآمالاً عريضة في التغيير، فوجدت نفسي منخرطاً في أحد الفصائل الماركسية التي كان يقودها المهدي بن بركة».
لن يفقد صاحب «لعبة النسيان» (دار الأمان ــــ 1987) حماسته في العمل النقابي، فخاض انتخابات «اتحاد كُتَّاب المغرب»، وفاز برئاسته (1976ــــ 1983). كانت تلك الفترة من أخصب المراحل التي مرّ بها الاتحاد المغربي، إذ حوّله هذا الكاتب المشاكس، إلى مكان للحوار والسجال الثقافي، بعيداً من سطوة السلطة.
وإذا كانت القاهرة هي مرآة محمد برادة على العالم العربي في مطلع شبابه، فإن باريس التي انتقل للعيش فيها، مطلع السبعينيات، كانت مرآته نحو العالم. «فترة مراجعة وتأمل ونقد ذاتي» يقول برادة، قبل أن يلتفت إلى ذلك العالم المنفتح على كل الأطياف والتيارات: من رولان بارت، إلى بيار بورديو، البنيوية أساساً والنقد السيميائي، وكل الأفكار والمناهج والأطروحات التي تعيد النظر بالأفكار المستقرّة، وتتجه إلى منطق مغاير في «فهم ما يدور حولنا».
بصحبة رفيقة دربه المناضلة والمثقّفة والسفيرة الفلسطينية ليلى شهيد التي التقاها في المغرب سنة 1977، اكتشف نمطاً آخر من العيش والخبرة: «لأول مرة أعرف معنى الاستقرار والغنى في التجربة»... كما كان لعمله في التدريس الجامعي طعم آخر، إذ كان يختلط بمجتمع الطلبة، ويحفزّ الموهوبين منهم على الكتابة والإبداع. «في بداية التسعينيات، أدركت أن التعليم في أزمة بعدما أُجهضت مشاريع الإصلاح، فتفرّغت للكتابة والتأمل». يعيش محمد برادة اليوم في بروكسل، متفرغاً للتأليف النقدي والروائي. «كتابة الرواية نوع من العلاج لهضم ما عشته، ولتحديد موقفي داخل مجتمع مغربي يتحوّل بإيقاع سريع، وداخل عالم عربي يفقد أوهامه القومية». عناصر السيرة الذاتية تحضر بقوة في معظم أعماله الروائية، لكنها تتماهى مع سرد تخييلي، يلملم أشلاء ذاكرة جيل عبر أكثر من برزخ من الآمال والتطلعات والأوهام، ليشتبك مع الذات والآخر في معارك خاسرة «تفرضها شروط التدهور في الحياة العربية».
ألهذه الأسباب لجأ محمد برادة في روايته الأخيرة «حيوات متجاورة» إلى لغة إيروسية خشنة؟ «هذه اللغة تحتاج إليها الرواية، مثلما تحتاج إلى الصدمة الجمالية... أما الجنس فهو عنصر أساسي في الحياة والكتابة. لا بد من أن نشتبك في الكتابة الروائية مع المحرّم، شرط ألّا تتحوّل الكتابة إلى مجرد شعار. المهم هو: كيف نروي حكاية، ونصنع عالماً خاصاً بنا؟».
الرواية من موقع آخر، كما يراها برادة هي «استدراج الحنين»، وإشعال الذاكرة بحيوات متجاورة، تلتقي وتبتعد، تتعانق، وتتنافر، تكتب وتمحو، حيوات تائهة في فلك مضيّع. «كنت في موقع من عاشر وشاهد ثم اختزن في ذاكرته، وتخيّل محكيات، ثم سرّبها إلى سارد استولى عليها وتعلّق بها، وأخذ يسردها في حضوري، فلم أعد أستطيع أن أعترض أو أحتج أو أكذب».
على هذا المنوال، يتوغل محمد برادة في هتك حيوات سرّية تنتمي إلى بيئات متباينة، ونماذج بشرية تغرق في متاهات اللذة، أو تجد نفسها تحت وطأة القمع والعسف السياسي. لا يسلم اليسار أيضاً من النقد والتعرية والمحاكمة: «كانت قوى اليسار مستمرة بقوة الرمز أكثر مما هي حاضرة عبر التحليل وتدبير الإستراتيجية».
مرارة الفشل التي أفضت إليها مشاريع الإصلاح والتنوير، لم تمنع محمد برادة من المضي قدماً، سواء في الكتابة أو في نمط العيش. «تجوالي بين جغرافيات متعددة، يمنحني توازناً، في حياة تفقد معناها ودلالاتها باستمرار».


5 تواريخ

1938
الولادة في الرباط (المغرب)

1955
بدء إقامته القاهريّة للدراسة، والانخراط في الحياة الأدبيّة والنضال السياسي

1971
تعرّف إلى محمد شكري وبنى صداقة متينة معه، وقد جمع مراسلاتهما لاحقاً في كتاب بعنوان «ورد ورماد» ( المناهل ــــ 2000)

1976
رئاسة «اتحاد كُتّاب المغرب»

2009
صدور روايته «حيوات متجاورة»، في طبعة مغربية «دار الفنك»، وطبعة مشرقيّة «دار الآداب»