نهلة الشهاليفرض مضمون وثيقة قوى 14 آذار الانتخابية، والإخراج الذي واكب إعلانها، تحدّياً على الجبهة المقابلة لا يمكن تجاهله. فهنا يمْثل أمام الناس تحالف مبنيّ رغم كل الفوارق بين عناصره، وتنافساتهم القاتلة أحياناً. وهو تحالف أدلى ببرنامج يفصح أولاً ـــــ حين يصرّح وحين يتجاهل ـــــ عن مفهوم للبنان والعالم، ويضع نفسه، ثانياً، في معسكر محدّد المعالم، وموجود. ثم تأتي طقوسيّة الإعلان نفسه، من حضور أركانه معاً على المسرح، إلى ترك ناطق باسم التحالف يتولّى المهمة وليس «زعيماً» بذاته، إلى شبك الأيدي معاً... ما يولّد شخصية معنوية مطمئنة تصلح للاستخدام كمرجع لمن يريد التماهي معها أو الاعتداد بها. وهناك علاوة على هذا وذاك، شكّل التنظيم السياسي «المودرن» للاحتفال، الشبيه بما تفعل التشكيلات السياسية «المحترمة» في أوروبا والولايات المتحدة. بل توفّر اللقاء على شعار مشترك، رغم تلفيقيّته الفاضحة، حيث القبضة الصارمة واللون الأحمر (اللذان ينتميان إلى تقاليد اليسار وعلاماته)، يتوسّطهما غصن الزيتون المسالم...
وهذا جانب من الموضوع ليس إلا، على الرغم من الأهمية المبالغ بها التي أحيط بها، والمقصودة من قبل القائمين عليه. وهي لا تعفي البنود الـ 14 للبرنامج من التفحّص والمساءلة. ولكن قبل ذلك، فهل الرقم مصادفة؟ أم هو استمرار لضبط الإخراج والعناية بالتفاصيل والأثر النفسي و«الرواية»، وفق مخطّطات خبراء التواصل الجماهيري المنتشرين اليوم في الولايات المتحدة، والذين يعرضون خدماتهم على «الثورات» الملوّنة.
فبمقدار ما تنطق بوضوح بعض بنود وثيقة 14 آذار، تتلعثم بنود أخرى، ويلفّها غموض عصيّ على المعنى. فهمنا بوضوح أن هذا التحالف يؤيد «حل الدولتين» بخصوص فلسطين (كما لو كان الأمر اختياراً من ضمن لائحة طعام، ولكن هذا موضوع آخر). وفهمنا بوضوح أيضاً، في البند الخامس نفسه، أن أعضاءه يؤيدون «مبادرة السلام العربية»، وهو ما يضع هذا التحالف ضمن مقاربة محددة، عربية ودولية، مطمئنة إلى شرعيتها، رغم أن الناطقين باسمها باتوا لا يعرفون بأي صورة من الصور مدى عمليتها، أي مطابقتها لإمكانات الواقع. كما أن الموقف من «سلطة» الدولة وامتلاكها وحدها للسلاح، وكذلك من العلاقة مع سوريا، يردد كلاسيكيات هذه الجبهة، وإن اختلفت هنا اللهجة وتخلّت عن نبرتها الهجومية، لكون البنود جزءاً من برنامج وليس من خطاب ناري تحريضي، كما قد يقال، أو لتغير في المشهد السياسي العام لم يعد يخفى، ولا سيما أن صديق أركان قوى 14 آذار، السفير الأميركي السابق في لبنان، جيفري فيلتمان ـــــ ما غيره! ـــــ هو من بات يتردد على سوريا.
ثم هناك «العلك» المعتاد حول المرأة والبيئة... لزوم التطرّق إلى كل الميادين، مع أن مسائل «هذه الميادين» ليست تافهة أو نافلة، بل جوهرية.
ولكن بنوداً أخرى تدخل صراحة في باب الطلاسم. فما معنى «حماية لبنان واللبنانيين في الداخل والخارج من ارتدادات الأزمة المالية». كيف؟ وإذا كان من الممكن حماية من في الداخل، على فرض وجدلاً، فكيف حماية من هم في الخارج؟ ثم ما معنى «سياسات ذات أبعاد تنموية»، والأهم ما معنى «تطوير العقد الاجتماعي الملزم للدولة والشركاء الاجتماعيين»: أي عقد اجتماعي يا قوم؟ لتنتهي الفقرة نفسها بـ«تفعيل شبكات الأمان الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً». فهل هذه دعوة لتبنّي إقامة التعليم والطبابة المجانيّين، والحد الأدنى للدخل، أم لشرعنة شبكات الزبائنية المغلّفة بدعاوى الإحسان والتي باتت مصدراً أساسياً، وفي غاية الإذلال، لتوفير «قوت لا يموت» للّبنانيين الأكثر فقراً.
أما الأطرف، فهو انتهاء الاحتفال بالتذكير بأنّ قوى 14 آذار ستدعو فور الانتهاء من الانتخابات إلى «مؤتمر للحوار الاقتصادي والاجتماعي»، «سيضع ميثاقاً للعيش الكريم»! لماذا تأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات، بينما أمكن تحديد موقف من مصير سلاح حزب الله والصراع العربي الإسرائيلي، ويُطلب من هؤلاء اللبنانيّين الفقراء، وهم أغلبية البلد الساحقة، تبنيه وإيصال أبطاله إلى السلطة؟؟
الغائب الآخر، بعد فقراء لبنان المؤجلين، هو بنية نظام الطائفية السياسية اللبنانية. ولا كلمة!! ولكنه غير منتظر من قوى 14 آذار، وهي ركن هذا النظام، أن تعي فواته والحاجة لشيء آخر. من مُطالب بهذا؟