خالد صاغيةتأخّرت انتخابات 2009. 7 حزيران يبدو تاريخاً بعيداً عن جوّ الاصطفافات الحادّة. كلّما تقدّمنا يوماً، ابتعدنا عن عناوين المسألة الوطنيّة التي أنتجت معسكريْ المعارضة والموالاة السابقين. المقاومة والسيادة انصرفا إلى الخلف، من دون أن تتقدّم مكانهما عناوين أخرى. حسابات الربح والخسارة أُنجزت في الشارع وفي العواصم الإقليميّة والدوليّة، من دون أن تنتظر صناديق الاقتراع. المعركة الدائرة الآن هي معركة مع طواحين الهواء. فهل هي نفسها طواحين بيروت؟
في السنوات الأربع السابقة، تجمّع اللبنانيّون في خندقين متقابلين. ضمّ كلّ منهما مجموعة شديدة التنوّع، فيها الأوادم والزعران، اليساريّون واليمينيّون، الأصوليّون والعلمانيّون، الإصلاحيّون والفاسدون، مجرمو الحرب ودعاة السلام، التقدّميّون والرجعيّون. ضبط كلّ معسكر الاختلافات بين مجموعاته، وسار الجميع بانضباط حديديّ تحت شعارات التحرّر من الوصاية أو الحفاظ على المقاومة.
تأخّرت انتخابات 2009. لقد عدّلت الأمبراطوريّة من أولويّاتها. بدا كأنّ بإمكان المقاومة أن تدخل في استراحة المحارب، وبدا أيضاً كأنّ ما حُقِّق من مكاسب على حساب الوصاية السابقة سيقف عند الحدود التي وصل إليها. «ربّما أخطأنا حين تدخّلنا في الشؤون الداخليّة السوريّة»، قال وليد جنبلاط. وكالعادة، يؤدّي الخطاب تجاه فلسطين دور إعادة تدوير المواقف (Recycling). فاكتشف سعد الدين الحريري، بعد جنبلاط بأسابيع، أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي الأساس. وفي الوقت نفسه، أعاد حزب اللّه اكتشاف الوحدة الوطنيّة، ودعا إلى حكومة وحدة مهما تكن نتائج الانتخابات، وذلك بعدما انتشر سلاحه ذات يوم داخل شوارع بيروت وأزقّتها.
تأخّرت انتخابات 2009. ندخل اليوم مرحلة جديدة لا بدّ من إعادة خلط الأوراق فيها، ولا بدّ من إعادة تحديد الأولويّات. رغم مشهد البيال الوحدويّ، بدأ التفكّك داخل جسم 14 آذار. وهذا أمر صحّي. التفكّك نفسه ينبغي أن يصيب جسم 8 آذار. فمهما كان صائباً (أو مخطئاً) شعار التوحّد في مواجهة الهجمة الأمبرياليّة الأميركيّة المتحالفة مع المشروع الصهيوني، فإنّ شعاراً كهذا بات غير ذي جدوى في المرحلة الحاليّة. ومهما كان مخطئاً (أو صائباً) شعار التقاء المصالح مع الإدارة الأميركيّة من أجل الضغط على سوريا وحزب اللّه، فإنّ شعاراً كهذا بات غير ذي جدوى في المرحلة الحالية.
تأخّرت انتخابات 2009. لكنّها، ربّما، تأتي في توقيت صائب. فمع بداية تفكّك المعسكرين، وانحلال العصب الذي بقي مشدوداً طيلة أربع سنوات، سيسود جوّ من الإحباط، وخصوصاً لدى الذين صدّقوا الكلام التزيينيّ الذي رافق الشعارات السياديّة لدى الطرفين. وقد امتهن الطرف الأوّل أنشودة بناء الدولة، فيما أطلق الثاني مخيّلته لزجليّات مكافحة الفساد والإصلاح. انتهى زمن الزجل، وباتت الساحة مفتوحة لقوى التغيير، إن وُجدت، التي لم تعُد مضطرّة لتأجيل التناقضات «الثانويّة».
لا يخفى على أحد أنّ النظام الطائفيّ يعيش إحدى أزماته الأكثر حدّةً. فهل من يبني على الخطوة الهامّة والناقصة في الآن نفسه التي بدأها وزير الداخليّة (المحسوب على رئيس الجمهوريّة، وهذا تفصيل مهمّ لأنّه يعني أنّ الرئيس قد يدعم خطوات مماثلة في المستقبل) بشأن شطب الطائفة من سجلّ النفوس؟ هل تبقى قوى اليسار ملتصقة بالتحالفات الطائفيّة تتسوّل مقعداً نيابيّاً من هنا أو هناك، بدلاً من التقاط فرصة فتح كوّات في هذا النظام الذي يتخبّط في أزمته؟
وهل من المفترض، مثلاً، أن نطرب لحفلات المديح الذي يكيله الطرفان للسياسات الماليّة التي يقال إنّها حمت لبنان من تداعيات الأزمة المالية العالمية، تلك السياسات التي أفقرت الفقراء من أجل أن تطعم حيتان المصارف، أم أنّ ترنُّح النيوليبراليّة ينبغي أن يحرّك قوى تغييريّة تدفع باتّجاه نظام أكثر عدالة لا يتيح لأرجُل السوق الخفيّة طرد المواطنين من جنّة العيش الكريم؟
قد تفتح المرحلة الجديدة إمكان خرق بعض البنى في هذا النظام. وهذه مهمّة اليساريّين بالدرجة الأولى. الكثير من هؤلاء اليساريّين وقفوا إلى جانب المقاومة، أو إلى جانب قوى 14 آذار، في المرحلة السابقة. لكنّهم فعلوا ذلك انطلاقاً من أرضيّتهم التي تختلف عن أرضيّة القوى الدينيّة أو زعماء الطوائف أو أمراء الحرب أو هواة الديكتاتوريّة. إنّها اللحظة المناسبة لإثبات أنّ أرضيّتهم كانت مختلفة حقاً. وهم في ذلك لا يقدّمون جردة حساب لأحد، بل لأنفسهم وللبلاد التي تستحقّ ما هو أفضل ممّا لديها اليوم.