صباح أيوبأذكر يومها أني نسيت أن أتناول الطعام طوال النهار. عينان مفتوحتان، مع اقتصاد في عدد الرفّات، ونظر معلّق على شاشة صامتة. لم يكن المذيع يتكلّم كثيراً أو أني قررت أن لا أسمع ما قد يقال في تلك اللحظات، كي لا أسمع غير ما تقوله لي مخيلتي. صباح باكر مكفهرّ أُدخِلتُ فيه بغداد... مع الدبابات الأميركية. كانت الشوارع الفارغة والجوّ الصافي يزايدان على سكون المدينة المغتصَبة بعد ليل متعب. قُسّمت الشاشة بين صورة مهرجان الأضواء الذي رافق القنابل المنهالة أثناء الليل ـــ ونحن نيام في أسرّتنا كالملائكة ـــ وبين الصورة المباشرة للكاميرا المتنقّلة في شوارع الغبار. أنا أشهد على احتلال إحدى أغلى العواصم العربية. أنا أتفرّج، من على كنبتي الهادئة، على اغتصاب قلب العراق من جانب الجيش الأميركي وبرضى الأمم متّحدةً (مهما نفت ذلك كلامياً لاحقاً).
أذكر أني صدّقت محمد سعيد الصحّاف وأحببت عبارة «العلوج» ورحّبت بإطلالاته المتلفزة باللباس العسكري مندّداً «مطمئناً». وكنت السبّاقة في نفي شائعات القبض على صدام. لم أرد أن أصدّق أنّهم هناك يدمرون ويقتلون وينهبون العراق ويمتصون نفطها وأنا قابعة في الجامعة أدرس عن «القوانين الدولية» وقوانين الحروب التي تُخرق أمام ناظريّ كل يوم. لكن شاشتي الصغيرة البريئة نقلت لي مشاهد الغزو الآتي من الجنوب والشمال وصولاً إلى القلب. ما بي؟ تارة أريد أن أرى ماذا يحدث كل لحظة، وطوراً لا أريد أن أصدّق ما أشاهد وأتهم الكاميرا بالاعتداء المباشر عليّ في منزلي، على كنبتي.
لكني أذكر كل شيء: نياشين صدام، حركة يد بوش مسرّحاً شعره قبيل إعلانه بدء «عملية التحرير»، ابتسامته البلهاء (دائماً)، إسقاط التمثال، نهب المباني والمستشفيات، دردشة بين جنديين أميركيين على دبابة بشأن فتح فرع لـ«ماكدونالدز» في أحد شوارع بغداد «الاستراتيجية»، نهب الآثار، أبو غريب، Mission accomplished، الخرائط النووية «الخيالية»، عدّادات القتلى، عيون صدام في المحكمة، قتلى من جديد، شنق الرئيس، دماء مسيلة في كل ذكرى دينية، عمليات النحر المصوّرة، الإصبع المصبوغ بحبر «الديموقراطية»، المزيد من القتلى المدنيين، وجه أبو مصعب الزرقاوي بالأسود والأبيض، «صدام لم يمت»، قتلى بالآلاف...
أذكر أنّ أحدهم أخبرني أنّ معظم مثقفي العراق يموتون من جراء تشمّع في الكبد. يشربون كي لا يروا.
أذكر أنّ وليد جنبلاط في الـ2005 قال «إن عملية التغيير في العالم العربي بدأت مع الغزو الأميركي للعراق». قاصداً التغيير الإيجابي طبعاً «نحو عالم عربي ديموقراطي جديد»، أضاف.
أذكر جيداً شريطاً على «يوتيوب» بعنوان «شرطيون عراقيون كسالى يتلقون خطاباً تحميسياً» يظهر كيف يلقّن الضباط الأميركيّون «البواسل» و«الشجعان» فرقة من الشرطة العراقية دروساً في الشهامة والانتماء للوطن والشكر لأميركا... في لهجة لا تخلو من الإذلال، والسخرية والاحتقار. أفلام أخرى عن الأمراض النفسية والعقد التي أصابت الجنود الأميركيين والسؤال هنا: قبل المجيء إلى العراق أم بعده؟
في حركة لا شعورية، غادرت الكنبة إلى الشرفة ونظرت إلى الشارع بحثاً عن شيء محدد. لكن لا شيء. الحياة طبيعية، والدكاكين مفتوحة والضجّة مستمرة. مددت نظري إلى الشارع المقابل. لا شيء. لا مظاهرات شاجبة، لا طلقات نار مستنكرة... لم يرمِ أحد بنفسه من الشرفة رافضاً ما رآه للتوّ على شاشته. عدت إلى الداخل، واكتفيت بالاحتفال بحذاء الزيدي.